كالعادة، أخرج بعض ”المتفلذكين” جريمة التعامل المتوحّش مع أطفال الحضانة في لبنان من سياقها الجنائي وأدخلوها في غياهب التنظير المجاني، بحيث حوّلوا الأمهات الى جلّادات!
قد لا تكون هذه ”الفذلكات” تهدف الى نقل المسؤوليّة، بقدر ما يمكن أن تكون في إطار حجز موقع في موضوع جذب بقوة الرأي العام، ولكنّها، ومهما كانت النيات، وجهت ضربة ”تحت الزنّار” للأمّهات العاملات، بحيث ذهب البعض إلى القول بأنّ ”اللي مش قادرة تكون حد ولادها بلا ما تتزوّج بالأساس، وإذا مصرّة على الزواح فبلا ما تخلّف”.
هذا النوع من المواقف مثير للشفقة، فهو لا يعبّر عن ”حبّ فائض” لدى قائله، بقدر ما يؤشّر إلى قصور في فهم التطوّر المجتمعي، من جهة والتموضع الحديث للمرأة في الحياة الإنتاجية، من جهة أخرى.
ووضع الأطفال في الحضانات ليس اختراعًا لبنانيًّا، بل هو حاجة عالميّة أملاها اندماج المرأة التي يجب ألّا تتخلّى عن الأمومة، بأيّ حال من الأحوال، في الحياة المهنيّة.
وعند بروز حاجة الأطفال، في سنتهم الأولى الى أمهاتهم، لم يتم نفي المرأة من العمل، بل جرى تطوير القوانين التي منحت الأم إجازة مدفوعة طويلة، وسرعان ما انسحب ذلك على إجازة الأب.
ولم تقتصر الأمور عند هذا المستوى، إذ تحوّلت الحضانات الى مسألة في غاية الأهمية في المجتمع لأنّها تتيح للأم أن تعمل بقدر كبير من الطمأنينة. ولهذا أصبح توفير الحضانات المطابقة للمعايير جزءًا لا يتجزّأ من البرامج الإنتخابية في المجتمعات المتقدمة.
إنّ من ينقل النقاش من واجب معاقبة من يسيء معاملة الأطفال وفق مقتضيات القانون إلى واجب تخلّي المرأة التي تصبح أمًّا عن العمل مثله مثل من يقول لمن يقيم في مدينة ملوّثة بأن يكفّ عن التنفس، بدل أن يبذل جهده من أجل إزالة التلوّث!
لم يستطع أيّ مجتمع أن يتطوّر قبل أن يسلّم بدور المرأة في العمل، من جهة وبحقها في الأمومة من جهة أخرى.
ومن ينظر الى أحوال المجتمعات الاوروبية قبل الستينات، حين بدأت المرأة في حصد مكتسبات كانت ممنوعة عليه، يمكنه أن يكتشف الثورة التحديثية التي حصلت على كل المستويات.
ثمّة من يظن بأنّ الدعاية لمرحلة تخيير المرأة بين العمل والأمومة إبداعًا. هؤلاء مثلهم مثل من يخيّر الأسير بين الموت بالسم أو بالخنجر.
جميلة وسائل التواصل الإجتماعي، ولكنّها بدل أن تقدّم لنا نجومًا تلمع قدموا لنا فحمة تظن بأنّها ألماسة!