"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث
تابعونافلاش نيوز

فصل من رواية «بيروت على ضفاف السين» بالعربية

نيوزاليست
الثلاثاء، 15 أغسطس 2023

فصل من رواية «بيروت على ضفاف السين» بالعربية

نهاية الشهر، تظهر في المكتبات الترجمة العربية لرواية الأديب اللبناني الفرنسي سبيل غصوب «بيروت على ضفاف السين»، التي نالت «جائزة غونكور الطلاب»، وهي التي ينالها صاحبها بعد أن تخضع روايات عدة مرشحة للجائزة لتصويت الطلاب. وقد وقع اختيارهم على هذه الرواية التي تحكي قصة عائلة هاجرت إلى فرنسا بسبب الحرب الأهلية في لبنان، لتعيش حياة فرنسية بمذاق لبناني.

الطريف أن النسخة العربية التي صدرت في بيروت عن «دار الجديد» ترجمها عن الفرنسية والد المؤلف قيصر غصوب الذي هو أحد أبطالها. وهو شاعر، ومسرحي، وصحافي وأستاذ لغة عربية، لكنه وجد نفسه أمام مهمة مختلفة تماماً هذه المرة. إنه اختبار نقل نص ابنه الذي يروي قصة حياته شخصياً كمهاجر.

تفتتح الرواية على النحو التالي: سألني أبي: «هل تريد أن أرويَ لكَ قصَّةَ حياتي بالعربيّة أم بالفرنسيّة؟». ثمّ أضاف: «هل تفهمُ العربيّة؟». وقد كان هو معلِّمي مُدَّة ثلاثِ سنواتٍ طوالٍ، وكنتُ أعيشُ في كلِّ أمثولةٍ من أمثولاته جلجلةً لا نهاية لها.

وعلى إثرِ هذا الكلام علَّقتُ زِرَّ التّسجيلِ على قميص بيجامَتِهِ الّتي يرتديها منذ أن كنتُ في الخامسةِ من عمري. بيجامةٌ مرتَّقَةٌ مرّاتٍ عِدَّةً بأناملِ خيّاطين أكرادٍ وعراقيين وكوريِّين؛ بعضهم وضع أيضاً خِرقاً من جلدٍ لسدِّ الثّقوب.

ويعرف القارئ أن للوالد أكثر من دزينة بيجامات، من النسخة نفسها، لكن يأبى أن يلبس غير هذه التي حملها معه من لبنان.

الرواية مليئة بهذه الإشارات الإنسانية التي تتحرى نفسية أم وأب مهاجرين اضطرتهما الظروف مع اندلاع الحرب الأهلية للعيش مؤقتاً في باريس، لكنهما لن يعودا أبداً، وسيبقيان معلقين على خيط الأمل الواهي.

يختلط الخيال بالواقع، فعائلة الكاتب حاضرة بأسمائها الحقيقة، لكن هذا لا يمنع أنه ملأ فراغات الذاكرة، وفجوات الروايات التي قصها عليه الوالدان، بتفاصيل روائية. كما أن الراوي (الابن) تمكن بعد جمع حكايات والديه من الصور والرسائل ومقابلاته معهم، من المزج بين الخاص والعام، حيث تحضر تعقيدات الوضع اللبناني وانقساماته حتى داخل العائلة الواحدة، من خلال قريبين أحدهما يقاتل مع الكتائب اللبنانية ويمقت الفلسطينيين، وآخر يقاتل من أجل تحرير فلسطين.

وهنا مقطع من النص العربي الذي سيظهر في المكتبات بعد أيام.

أبي وأمّي في باريس | 1975

يتصيّد أبي الجرائد من المزابل العامّة بواسطة عصا صنعها من قطعة خشبيَّةٍ وخيطٍ وإبرة خياطة معقوفة. يسرق الكتب من مكتبة «جيلبير جون» «أكثر من 100 كتاب» هذا ما أكّده لي. يحكي لي دائماً الطّرفة نفسها، وهي أنّه تناول مرّة شقعة من الكتب من الرّفوف وخرج دون أن يدفع، فاقترب منه رجل أمن، وربَّتَ كتفه اليمنى: «إلى أين أنت ذاهب؟ اتبعني!».

كان الرّجل طويلًا، أكثر من مترين. مشى أبي خلفه إلى الطّابق الأرضي دون كلمة حيث وجد نفسه في مخفر.

  • ماذا كنت تنوي أن تفعل بهذه الكتب؟

  • بهذه الكتب؟

  • نعم يا سيّد.

  • كنت أنوي أن أُرِيَها لزوجتي الواقفة في الجهة الأخرى من الشّارع. هل تعرف أنّ «اختفائي» قد يصيبها بالجنون والحزن، وأنّها ستتصل على الأرجح بالشّرطة وأنتم هنا غبّ الطلب!

  • هل تضحك عليّ؟

  • لا أبدًا. لنصعد الآن معاً من فضلك.

أمّا أمّي الّتي أضاعت زوجها فطلبت من أحد البائعين أن يناديَ اسمه على المكبّر كأنّه ولد عمره أربع سنوات. كنّا نسمع في المكتبة ما يلي: «السّيّد قيصر غصوب مطلوب على الاستقبال، السّيّد قيصر غصوب!». وحين شاهدتْ أبي بدأت تولول: «أين كنت يا قيصر؟ أين كنت؟ أبحث عنك منذ ساعة!». عندها تمنّى رجل الأمن لو أنّ الأرض تنشقّ وتبلعه. حاول أبي أن يهدّئ من رَوْع أمّي: «اهدئي، أردت أن أُرِيَكِ هذه الكتب في الشّارع فظنّوا أنّني سأسرِقُها». بدأ صراخ أمّي يتعالى أكثر فأكثر إلى درجة أنّ الكتب صارت تتساقط عن الرّفوف: «لا، لا، هل أنتَ مخبول؟! زوجي يسرق؟! ألأنّه يحمل بين كتفيه رأساً عربياً، أو رأساً تركياً حسبما تفكّرون؟! يا عيب الشّوم عليكم! يا عيب الشّوم!». أخذت الكتب من يديْ أبي ورمتها على الأرض: «خذوا كتبكم، لا نريدها! على كلِّ حال نحن نختنِقُ داخل مكتبَتِكم، نختنق! لا يدخلها شعاع نورٍ. لا أفهم كيف يتحمل زوجي أن يبقى فيها ساعات عدّة».

إلى جانب الدّراسات الّتي يتابعها في السّوربون يعمل أبي كثيرًا؛ فهو صحافيٌّ ثقافي في بعض المجلّات العربيّة، كما أنّ جامعة القديس يوسف في بيروت عيّنته في إدارة مركز الأبحاث والدّراسات العربيّة «لو كريا» لتدريس العربيّة للرّاشدين.

ينتقل من شقة إلى شقة، يعلّم الأبجدية لرؤساء الشّركات الفرنسيّة الكبيرة. ألف، باء، تاء، ثاء… وتلاميذه يتعثّرون دائماً بالأحرف ذاتها، ولا يستطيعون أن يلفظوا حرف «الرّاء» دون لدغته الفرنسيّة، ولا أن يتنحنحوا بحرف «الحاء» الّذي يصدر من الحلق.

«بسرعة وجد أبوك عالَمَه، يتحرّك كثيراً، ويلتقي أُناساً كثيرين. أمّا أنا فكنت أشعر بأنّني وحيدة»… سُجّلت والدتي في السّوربون لدراسة الجغرافيا. ولكنّها ووالدي كانا بحاجة لمدخول لدفع إيجار الشّقة مثلاً، ورغم أنّ الأهل يرسلون لهما مبالغ بيد أنّها لا تكفي، لذا أخذت تبحث بحثَ المستميت عن عملٍ.

لم تكن لتفهم خرائط المترو: الخطوط والتّحويلات وقاطع التّذاكر؛ في لبنان تنقّلت دائماً بالسّيارة. أبوها يعيرها سيّارته. كان من أوائل اللّبنانيّين الّذين اشتروا سيارة. رقم لوحتها يثبت ذلك هو «3101». وقد وُضِعت هذه اللّوحة على سيارتي الأولى في لبنان. أذكر أنّني في محطة وقود قرب ضيعة أمّي، اقترب منّي رجل عجوز عند رؤيته رقم اللّوحة «3101» وقال لي: «أنتَ حفيد توفيق؟». ثمّ ضمّني إلى صدره قبل أن أجيبه. كانت موسيقى الستّينات المصرية تصدح من مذياع محطة الوقود. يكفي أن أغمضَ عينيَّ كي أتخيَّل أنّني أسير في مشهد فيلم من أفلام المخرج الألماني ـ التّركي فاتح أكين، حيث تكتنفُ عودة شابٍّ من أبطاله إلى قريته صُدَفٌ سحريّة.

الكلوشار أو صعاليك باريس هو ما شاهدته أمّي للمرّة الأولى في حياتها، ففي لبنان لم يكن جائزاً أن نترك أقرباءنا يتسوّلون. هناك دائماً ابن عمّ أو عمّ أو قريب ليتلقّفَ هذا المسكين ويساعده أو يلجِئَه أو يجدَ له عملاً. حين تخبرني أمّي بهذا اللّبنان، أتحقق كم أنّ البلد الّذي عرفَتْهُ قد تغيّر.

نصادف الآن شحاذين شباباً أو عجائز لبنانيّين أو سوريّين نساءً أو رجالًا في كلِّ ناصية من شوارع بيروت.

أمّي تشتاق إلى أمّها بشكل قاسٍ، اعتادتا الألفة وهذا البعادُ جُلجُلة. فقدَتْ أمّي نجيّتَها، صديقتَها الحميمة، شقيقةَ روحها. تكتب لها رسائل تستهلّها بـ«ماما حبيبتي»، وتستكملُها بعبارات حبٍّ وكلماتٍ بليغةٍ ومؤثّرة. تبكي أمّي يومياً؛ لأنّها تعيشُ بعيدةً عن أهلها وعن بلدها. آخر همّها حياتها الباريسيّة.

صديقاتها في لبنان يكتبن لها: «حظّك كبير لأنّك تعيشين في باريس». كانت تودّ أن تجيبهنّ: «اخرسن، إنكنّ لا تفهمن شيئاً». كلّ ما كانت تتمنّاه هو العودة إلى أحضان أبيها، وإلى دردشاتٍ وقهوةٍ مع أمّها، وأن تستعيد أرضَها وشمسَها وبحرَها. في خيالها، باريس رائعةٌ وجميلةٌ كالأفلام الفرنسيّة القديمة الّتي كانت تشاهدها في بيروت مع أبيها. تشبه باريس فيلماً عنوانه: «يحدث فقط للآخرين» للمخرجة نادين ترنتينيان الّذي شاهدته مرات عدّة في سينما «ألدورادو». كانت تتوقّع أن ترى نساءً ورجالًا أنيقين مثل مارسيللو ماستروياني وكاترين دونوف، وسيارات برّاقة وشوارع نظيفة، لكن الحقيقة كانت عكس ذلك.

«باريس وسخة يا سبيل والدّليل المترو، منه تفوح رائحة كريهة» أردفت أمّي: «رائحة نتنة إضافة إلى عرق النّاس وهواء المجارير المقيت. هل تعرف ماذا فعلت كي لا تخنقني هذه الرّوائح؟ عطّرت شالي بالياسمين، وثبَّتُّه على أنفي طوال الرّحلة». فكّرتْ أمّي حينئذ بأزهار حقول قريتها بشجيرات الحامض والبرتقال والأفندي في بيتهم قرب بيروت.

تساءلت: من يتحمّل العيش في باريس؟ «هذه ليست بحياة»، سمعتها تردّد.

كانت تعبر المدينة من أقصاها إلى أقصاها لشراء السّمّاق وحبّ الهال والزّعتر. كل هذه التّوابل الّتي كانت تجدها في كلِّ مكان في لبنان، وجدَتها فقط في بقالة «إسرائيل» الواقعة في منطقة لو ماريه بباريس.

ساعة تسديد الفاتورة كانت تشتمهم بالعربيّة: «صهاينة» لا يفهمون ما تتفوّه به.

المقال السابق
"الخبث" في وسْم "أم.تي.في" بالخبث!
نيوزاليست

نيوزاليست

مقالات ذات صلة

"هاري الأمير المفقود".. فيلم يفضح ما عاشه دوق ودوقة ساسكس

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية