أخفت الألعاب الأولمبية التي استضافتها باريس بين السادس والعشرين من تموز (يوليو) والحادي عشر من آب (أغسطس) عوارض الاضطراب السياسي الكبير الذي تعاني منه فرنسا، منذ انتهت الانتخابات البرلمانية “المبكرة جداً” إلى إيجاد ثلاث كتل نيابية متقاربة تتفوّق منها، نسبيّاً “الجبهة اليسارية الجديدة”. ولن يستطيع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وهو صانع هذا الاضطراب، إخفاء العوارض، مرة ثانية، في فترة الألعاب البارالمبية، الخاصة بذوي الحاجات الخاصة، التي تبدأ في الثامن والعشرين من آب وتمتد حتى الثامن من أيلول (سبتمبر) المقبل، لأنّ مهل تقديم ميزانية جديدة لبلاد تعاني اقتصادياً ومالياً، تضغط، بقوة!
ويصرّ ماكرون، في ظل حكومة تصريف الأعمال الموالية له، على الظهور كما لو كان يُخفي خطته الخاصة بالمرحلة المقبلة، وإن كان الكثيرون في فرنسا يعتقدون بأنّ رئيس الجمهورية لا يملك في الواقع خطة مماثلة، بل هو يحاول أن يستفيد من “الوقت” في انتظار حدوث تفسخات في الجبهات السياسية المناوئة له، حتى يتمكن من اللعب عليها، والاحتفاظ بأكبر قدر من السلطة، سواء في انتظار إجراء انتخابات جديدة، بعد 10 أشهر، أي بعد انقضاء مهلة حظر حل الجمعية العمومية الجديدة، أو حلول موعد الانتخابات الرئاسية، بعد ثلاث سنوات.
ومنذ دعا ماكرون الى الانتخابات التشريعية المبكرة، للرد على الفوز الكبير الذي سجله “اليمين المتطرف” الفرنس ي في الانتخابات البرلمانية الأوروبية، لم تتغيّر “خطته السياسية”، فهو يريد أن يجلس في قصر الإليزيه ويضع الآخرين في “حلبة المصارعة”: اليمين المتطرف في مواجهة اليسار المتطرف، الاعتدالان اليساري واليميني في مواجهة التطرفين اليساري واليميني، اليمين المتطرف في مواجهة العجز المستدام عن الوصول الى السلطة، واليسار في “حرب أهلية” مع “شياطينه”.
حتى تاريخه، نجحت خطة ماكرون ولكنها بقيت دون عتبة إفادته منها.
وبالفعل، غيّب “التجمع الوطني” رئيس حزبه جوردان بارديلا عن الواجهة، بعد التعثر في الانتخابات التشريعية، وبالتالي تجمد زخم هذا النجم الصاعد في المشهد السياسي الفرنسي الذي كان من شأنه، في الانتخابات الرئاسية المقبلة، أن يعطي قوة دفع هائلة لزعيمة التجمع مارين لوبن. الانتخابات التشريعية أعادت “شيطنة” هذا التجمع الوطني الى ما كانت عليه حالته،عندما كان اسم الحزب “الجبهة الوطنية”، وفق القواعد التي أسسه عليها جان ماري لوبن. وجنح “اليسار الفرنسي” إلى تهشيم صورة زعيم حزب “فرنسا الأبية” جان لوك ميلانشون، ووضعه في خانة الشخصيات الإشكالية. ونجحت قوى الاعتدال مع قوى الوسط في وقف النزيف، وحدّت من الخسائر التي كانت تتفاقم، يوماً بعد يوم.
ولكنّ هذه الديناميكية، بقيت دون تمكين م اكرون من حصد ثمارها، فاليمين المتطرف انكفأ ولكنه لم ييأس. لم ينضم أي من وجوهه الى القوى الأخرى، أو يبدي استعداداً ليكون رافداً للمعسكر الرئاسي. أوجدت له مارين لوبن عنوان تحد جديد، وهو تحضير الأرضية للانتخابات التشريعية المقبلة، وسط توقعات بحل الجمعية العمومية فور حلول “الجهوزية الدستورية”. و”الجبهة اليسارية الجديدة” لم تنفع ماكرون بشيء، وهي “تحيّد” ميلانشون، بل أفادها ذلك في إطالة أمد وحدتها. وتعزيز وضعية المعتدلين في الحياة السياسية الفرنسية، كرس ابتعادهم عن ماكرون، على أمل أن ينعكس ذلك إيجاباً على طموحاتهم الرئاسية غير المخفية.
وبذلك، تمكن ماكرون من تحويل الجمعية العمومية الى مراكز قوى يحتفظ فيها كل طرف بقدرته التعطيلية، من دون تمكين أحد من أن تكون لديه قدرات بنائية. ماكرون، أحد هؤلاء!
يوم الجمعة المقبل، سوف يمارس ماكرون “هوايته” المفضلة. سوف يعقد جلسات تشاورية مع الكتل السياسية في الجمعية العمومية كما في مجلس الشيوخ. هدفه ليس الاستماع إلى ممثليها، بل محاولة إقناعهم، بأنهم، في ظل انعدام قدرة أيّ منهم على تشكيل حكومة لا تكون “معطلة” و”آيلة الى السقوط”، عليهم تسليمه هو الدفة، بحيث يختار رئيساً للحكومة محسوباً على “الجبهة اليسارية” ولكنه ليس فيها ولا يلتزم بمشروعها “غير المناسب للمصلحة العليا، على مستوى الطروحات الاقتصادية”. في باله شخصيات على قياس برنار كازنوف، أحد نجوم مرحلة الرئيس السابق فرانسوا هولاند، الذي عاد الى البرلمان، بداعي المساهمة في وضع حد لتمدد اليمين المتطرف.
الأهم بالنسبة لماكرون، في هذه المرحلة، ليس أن يحصل على أغلبية برلمانية تمرر مشاريع الحكومة، بل أن يضمن أكثرية تمنع إسقاط الحكومة، في الجمعية العمومية، لأنّه واثق بأنّ جان لوك ميلانشون، من جهة ومارين لوبن، من جهة أخرى لن يتوقفا مطلقاً عن استهداف الحكومة الجديدة بعرائض سحب الثقة. هو لا يحتاج، حتى يطلق آلية تشكيل الحكومة الجديدة، الى موافقة معلنة. الموافقة الضمنية تكفيه.
وحاجته الماسة الى هذا “الدرع الواقي” ليست تفصيلاً. جان لوك ميلانشون يستعد لتحريك آليات عزل ماكرون من الرئاسة، في حال سمّى لرئاسة الحكومة شخصية غير لوسي كاستيه، مرشحة “الجبهة اليسارية الجديدة”. بالنسبة لميلانشون، كل تسمية لغير كاستيه لرئاسة الحكومة، هو فعل مناهض للديموقراطية، انطلاقاً من أن الأكثرية النسبية في الجمعية العمومية أصبحت بعهدة هذه الجبهة اليسارية.
بضمان عدم توافر أكثرية للإطاحة بالحكومة الجديدة يأمن ماكرون جانبه، ولا يتعرض لخطر أن تتقاطع ضده أكثرية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، وتطرده من قصر الإليزيه.
نقطة قوة ماكرون الأساسية التي قد تعينه على توفير “أكثرية سلبية” تكمن في إدراك أكثرية المؤثرين في فرنسا، أنّ بلادهم، بحاجة الى جهد كبير لتنتقل من حافة الهاوية، ماليّاً واقتصاديّاً، إلى هامش الأمان، وبالتالي يجب تفويت الفرصة على عنصرين “سلبيّين” يتمثلان بكرم لامتناه على حساب خزينة غارقة في الديون، يبديه جان لوك ميلانشون ومارين لوبن.
في الانتخابات التشريعية أنقذت فرنسا نفسها من تداعيات تسليم السلطة الى “اليمين المتطرف”. ماكرون يريدها الآن أن تكرر التجربة في تشكيل الحكومة بتفويت الفرصة على “اليسار” من تحقيق طموح “خطر للغاية”!
نقطة ضعف ماكرون الأساسية تكمن في إدراكه، وهو يرى حتى هؤلاء الذين صنعهم سياسيّاً يبتعدون عنه، بأنّ الإطاحة به قد تكون لها شعبية كبيرة في بلاد شعر يوماً أنّه أصبح فيها بمقام لويس الرابع عشر، فإذا به يناضل حتى لا يلاقي مصير لويس السادس عشر!