نشرت صحيفة “ديلي تلغراف” تقريرا أعده كون كوغلين تساءل فيه إن كان العالم مستعدا لإعادة تأهيل بشار الأسد؟ وقال فيه إن الحرب الأهلية الوحشية استمرت لأكثر من عقد، إلا أن سلسلة التقارب الأخيرة تشير إلى تحول في المواقف الدولية من الديكتاتور بشار الأسد.
ويقول إنه عندما بدأ بالكتابة عن الشرق الأوسط لصحيفة “ديلي تلغراف” في بداية الثمانينات من القرن الماضي، مر بتجربة ليس من تم تعميده بالنار ولكن من ظل يتعرض للهجمات. ففي ذلك الوقت لم يكن هناك أي من دورات التدريب على المخاطر التي يتلقاها اليوم المراسلون الأجانب قبل إرسالهم إلى الخارج. وكان المطلب الوحيد هو توفر أساسيات لدى المراسل في التغطية الصحافية ورغبة بالمغامرة.
وقبل وصوله إلى بيروت التي مزقتها الحرب في عام 1983 كانت التجربة الوحيدة في تغطية اضطرابات هي تغطية أحداث الشغب في بريكستون بجنوب لندن عام 1981، مع أن العنف هنا لم يكن حربا. وقبل سفره إلى مطار بيروت المحطم، قضى أسابيع محيرة يكتب عن الغزو العسكري الأمريكي للجزيرة الكاريبية الممتعة، غرنادا. وخلال ثلاثة أسابيع في العاصمة سانت جورج، كان الخطر الوحيد عليه هو سحابة ضخمة من دخان الكانبيس الذي رافق هانتر أس تومبسون الذي كان يغطي الأحداث لمجلة بلاي بوي.
وكانت بيروت منطقة مختلفة بالكامل، فقد كان عمره 28 عاما ولديه رغبة لإثبات نفسه عبر القبول بالذهاب إلى خطوط القتال في واحد من محاور الحرب الأكثر تطلبا في العالم. وكان لبنان الذي بدأت فيه الحرب الأهلية عام 1975 المكان المناسب. وتم إرسال قوات المارينز التي أرسلت لغزو غرنادا لكي تخفف العبء عن مفرزة المارينز في بيروت والتي عانت من خسارة 241 جنديا ومئات الجرحى بعدما فجرت ثكناتها في لبنان في عملية نفذتها ميليشيا اسمها حزب الله.
ولم يتعرف على المارينز في غرنادا إلا أن المسؤولين في الصحيفة وجدوا من المناسب إرفاقه معهم إلى بيروت، ومن هنا بدأت علاقته الطويلة مع المنطقة، حيث وقع تحت النار أكثر من مرة ونجا من محاولة اختطاف على يد ميليشيا إسلامية. والقول إنه لم يك ن جاهزا للمخاطر هو سوء تقدير، ففي واحدة من لياليه الأولى في بيروت، خرج إلى الضاحية الجنوبية لكي يتحقق من تقارير حول معركة بالدبابات بين ميليشيات متنافسة مما اضطره للهرب. وفي تلك الأيام لم يكن المراسلون الأجانب لديهم متعة ارتداء الستر الواقية بكلمة صحافة عليها وخوذة على الرأس، وكان عليك أن تنجو بناء على حدسك.
وبشكل تدريجي علم كيف يتصرف بذكاء في الشارع. وعندما كان القصف كثيفا حول الفندق الذي يقيم فيه كان ينام في الحمام تجنبا للشظايا. وعندما بدأت الميليشيات تستهدف الصحافيين البريطانيين وتختطفهم مثل تيري ويت، هرب مختبئا تحت بطانية سوداء على كرسي سيارة إلى مطار بيروت حيث نجح بركوب آخر طائرة متجهة نحو قبرص. وفي هذه الفترة المضطربة من عمله الذي مضى عليه أربعة عقود لصحيفة “تلغراف” طور اهتماما قويا بالشرق الأوسط وبخاصة الظل المخيف لنظام الأسد في سوريا المخيم على المنطقة منذ انقلاب الرئيس الراحل حافظ الأسد في 1970.
وكحليف لإيران كان الأسد متورطا وبشكل عميق في لبنان والحرب الأهلية فيه. وكشفت التحقيقات عن تورط المخابرات السورية في هجوم على السفارة الأمريكية وثكنات المارينز عام 1983. وكانت تغطيته كما يقول ناقدة لنظام الأسد وحليفه حزب الله في لبنان.
واكتشف لاحقا أنه لم يعد ممنوعا من السفر إلى سوريا فقط ولكنه أصبح على قائمة أهداف حزب الله من الغربيين. وبعدما تحولت سوريا إلى الضحية الأخيرة من الأنظمة القمعية للحرب الأهلية عام 2011، تركز انتباه الكاتب على دور بشار الأسد في النزاع. فبعد أن ورث الرئاسة عن والده، نجح بشار الخجول والبعيد عن السياسة بتحويل نفسه لأكثر ديكتاتور مكروه في العصر الحديث.
وطوال الحرب الأهلية، ثبت أن الأسد كان في قلب العنف الإجرامي الذي مارسه نظامه ضد شعبه، إما من خلال الإشراف على المجازر في مناطق المعارضة أو استخدام الأسلحة الكيماوية. ويقول كوغلين إن قدرة الأسد على النجاة من أشد النزاعات وحشية، رغم ما لديه من عيوب شخصية صارخة هو ما دفعه لكتابة كتاب عن الزعيم السوري وتحليل الطبيعة المعقدة والمتناقضة والعوامل المهمة التي أبقته في السلطة.
وبالنسبة لشخص لم يولد ديكتاتورا فقد أنجز بشار مهمة جيدة في ترويع شعبه. فتحت نظره قتل ما يقدر بنصف مليون سوري وأجبر الملايين على مغادرة بيوتهم. وفي الذكرى الـ 12 على اندلاع الحرب قدرت الأمم المتحدة أن 15.3 مليون سوري بحاجة إلى مساعدة إنسانية عاجلة.
ولم يكن هذا ليحدث، فلم يكن بشار الأسد مرشحا أبدا لدور الرئيس. فقد كان الدور لباسل، شقيقه الأكبر. وكان باسل “بلاي بوي“ وصوره حزب البعث الحاكم بالفارس الذهبي، الذي ارتقى لمقام صورته من خلال تحوله لمحبوب ملاهي بيروت الليلية.
ولكن الآمال بأن يصبح باسل وريثا لوالده انتهت عندما مات في حادث سيارة قاتل على طريق مطار دمشق عام 1994 وقبل فترة قصيرة من بلوغه الـ 32 عاما.
وفي وقت وفاة شقيقه كان بشار، 28 عاما، يعيش حياة هادئة بعيدة عن الأضواء كطالب طب في لندن. وكان خجولا ويتحدث بلثغة طفيفة ويعيش في شقة سكنية بمنطقة بيلغريفيا مع حارسيه السوريين. ولم تكن لديه حياة اجتماعية ولكي يرتاح كان يستمع لأغاني فيل كولينز وويتنسي هيوستن. وعندما عبر عن رغبة بإكمال دراساته الطبية في لندن بعدما حصل على شهادة من جامعة دمشق، لم تكن الحكومة البريطانية مرتاحة لمنظور استقبال عضو بارز من عائلة الأسد في لندن. ولم تكن العلاقات البريطانية – السورية جيدة وقد توترت بعد محاولات رجل أمن سوري تفجير طائرة إسرائيلية بمطار هيثرو عام 1986، إلا أن رجلا يعرف العائلة عرض التدخل لدى 10 داونينغ ستريت وعرض على بشار دراسة طب العيون في مستشفى ويسترن آي.
واهتم الأسد بالتكنولوجيا وبخاصة الكمبيوتر، وحالة خروجه من منزله كان يستخدم اسما مستعارا، وبخاصة عند التواصل مع المجتمع العربي الحي في لندن. ورغم جهوده الدراسية إلا أن المشرفين عليه لا يعتقدون أنه كان طالبا مبهرا. وقال مشرف سابق له “كان مجتهد ا ولطيفا بما فيه الكفاية للعمل معه ولكنه كان عاديا”. ويتذكر المشرف الذي أشرف على الأسد خلال عام ونصف قضاه في لندن “في يوم جاءت سيارة ليموزين سوداء وأخذته ولم ير بعد ذلك”. ووصلت طائرة خاصة إلى لندن لكي تأخذ الابن الثاني إلى بلده ولكي يخلف باسل كوريث لوالده.
وبناء على أمر من والده قدمت للأسد دورة أساسية في السياسة والمهارات الدبلوماسية والضرورية للسيطرة على سوريا المتشرذمة، في وضع لم يكن مؤهلا له وإن لفترة مؤقتة. و”كما علق والده لأحد معارفه فإن “سوريا هي غابة ولم يصبح بشار ذئبا بعد”. وعندما وصل إلى الرئاسة عام 2000 تم الترحيب به كوجه للتغيير بعد 30 عاما من الحكم القمعي لوالده. وكانت الصورة التي قدمها بشار للعالم في المرحلة الأولى من حكمه هي أنه متعلم وحركي وهدفه هو تحديث البلد وتطبيق إصلاحات سياسية واقتصادية راديكالية. وتحدث في خطابه الأول عن طموحه للتركيز على الاقتصاد والتعليم “أجد من المهم دعوة كل مواطن للمشاركة في رحلة التنمية والتحديث لو كنا صادقين وجادين للحصول على النتائج المطلوبة وفي أقصر وقت”. ففي فترة حكم والده الأسد كان أي تلميح للمعارضة يقابل بالسحق، فيما سيطرت على الاقتصاد شلة بعثية فاسدة. وكان بشار راغبا بتصوير نفسه على أنه الصورة المضادة لوالده.
فلم يتعلم بالغرب ولكنه تزوج فتاة جميلة عمرها 25 عاما والدها طبيب قلب في لندن، اسمها أسماء الأخرس. وكانت صديقاتها في لندن يطلقن عليها “إيما” وتخرجت من كينغز كوليج في لندن بشهادة في علوم الكمبيوتر. وقال شخص يعرفها من الطفولة “كانت مؤدبة”. وساعد زواجه من أسماء على اهتمام الغرب به، فعندما رتب توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني للزوجين مقابلة الملكة عام 2002 كمحاولة منه للحصول على دعم سوريا في حرب العراق، خرجت الصحافة البريطانية بتغطيات براقة ووصفت أسماء بالأيقونة.
وخلف الأضواء كان الأسد يعاني من الشكوك وبحسب صديق للعائلة “كان هناك شعور عند بشار أنه كان يحاول أن يكون شخصيتين في وقت واحد” و”نصف منه يحاول أن يكون مثل والده والنصف الآخر أن يكون مثل باسل”. وقال معاصر آخر “كان بشار يعيش في ظل والده وفي ظل شقيقه الأكبر” و”كره عندما كان الناس يقللون من قدره”.
وعليه قام بقمع حركة الإصلاح الناشئة وهمش من شكوا في صعوده السياسي وقرب إليه الموالين وعين شقيقه ماهر قائدا للفرقة المدفعية الرابعة. إلا أن العالم غض الطرف عن هذا، فمع تكثف غيوم الربيع العربي عام 2011، نشرت مجلة “فوغ” صورة شخصية عن أسماء تحت عنوان “وردة في الصحراء”، ووصفت فيها أسماء وزوجها وعائلتهما بأنها “ديمقراطية”، وبأن هما زوجان يقضيان الإجازات في أوروبا ويعززان المسيحية ويشعران بالراحة مع النجوم الأمريكيين وأهم طموح لهما هو جعل سوريا “أكثر الأماكن أمنا في الشرق الأوسط”.
إلا أن أي مظهر احترام راكمته عائلة الأسد عبر شركات العلاقات العامة، تبخر في الوقت الذي شعر فيه النظام بأنه مهدد بسبب الاحتجاجات المعادية للحكومة. وكانت الاضطرابات تغلي تحت السطح منذ تولي الأسد السلطة وعدم وفائه بوعوده. وبعد أيام من اندلاع الاحتجاجات في آذار/مارس بجنوبي سوريا كشف الأسد عن وحشية مرضية، وبناء على أوامره تم إنشاء جهاز أمني شرير باسم “الخلية المركزية لإدارة الأزمة” بمهمة تحديد مركز الاحتجاجات واستهدافها بالمذابح والقمع وعلى قاعدة واسعة. وفي حادث معروف بحي التضامن بدمشق في نيسان/إبريل 2013 حفرت القوات السورية خندقا في واحد من الشوارع الرئيسية وأعدمت 280 شخصا رميت جثثهم في قبر جماعي.
وأقامت خلية الأزمة شبكة من السجون التي احتجز فيها المعارضون المشتبه بهم وعرضوا وبناء على أوامر من الرئيس لكل أنواع الانتهاكات واعتقلوا لأوقات طويلة تعرضوا فيها للتخويف والعنف الجسدي والجنسي، بما في ذلك الاغتصاب. وعلى مدى عامين مات الآلاف من المعتقلين حيث قام مصور عسكري بتهريب الصور للموتى خارج البلد. والسؤال كيف تحول طبيب العيون اللطيف و زوجته ابن الضواحي لقاتلين؟
لم يكن الأسد نفسه قائدا طبيعيا وعانى من التردد، ويقول المساعدون له إنه كان يغير رأيه 20 مرة، مما جعل من الصعوبة بمكان على القادة الحصول على أوامر واضحة. فمن جهة كان يعد بالإصلاح ويشرف على القمع من جهة أخرى. وهو ما عقد على المسؤولين معرفة أهداف الرئيس، وأضاف تشوشا على رد النظام.
ويقول روبرت فورد الذي كان سفيرا لواشنطن في دمشق بداية النزاع إنه لا يشك ولو للحظة عمن كان المسؤول وأن الأسد لم يقم بأي محاولة للحد من المتطرفين في النظام و”لم يكن يسيطر على الأساليب اليومية، وأخبر المسؤولين البارزين في الأمن بالتصرف، وكان يقول لهم: أنتم تعرفون ما يجب عمله” و”لم نحصل على أي فكرة أنه كان يدعو لضبط النفس”.
وكان الأسد وبدرجة أقل أسماء في حالة إنكار للعنف الجاري حولهما، وعندما ووجه بتقرير أمنستي لاحقا، رفضه الأسد “تستطيع تزوير أي شيء هذه الأيام” و”نعيش في عصر الأخبار المزيفة”، حسبما أخبر “وول ستريت جورنال”، وزعم أن صور الجثث في السجون هي عبارة عن “فوتو شوب”.
وفي الوقت الذي حاول فيه تقديم صورة رجل قوي يهاجم أعداءه إلا أن ضعفه انكشف عندما أصبح أكثر اعتمادا على إيران. وبعد موافقة طهران على إمداده بآلاف المقاتلين الشيعة الأجانب أصبح الجنرال قاسم سليماني المسؤول الرئيسي. وقال مسؤول استخباراتي أمريكي “وصل الأمر لحد ذهاب سليماني إلى الأسد ليخبره بما يجري وعلى سبيل المجاملة”. ثم ذهب سليماني إلى روسيا وأقنع فلاديمير بوتين بالتدخل مما أنقص من قدر الأسد أكثر.
وقال ضابط سوري سابق “منذ اللحظة التي وصلوا فيها، أصبح الروس هم الذين يملون الشروط، ولم يكن لدى القادة الروس أي اهتمام بإعلام الأسد عما يحدث”. وفي الوقت نفسه فشلت جهود أسماء في إبعاد نفسها عن المجازر عندما أعلنت الشرطة البريطانية عام 2021 أنها تحقق بالمجازر، وهو تحرك قد إلى محاكمتها وخسارتها الجنسية البريطانية.
إلا أن الأسد لا يزال يحكم سوريا، وأعيد تأهليه لدرجة دعوته الشهر الماضي إلى القمة العربية في جدة، فنظر العالم متركز على أوكرانيا. وفي مقابلات أجراها لكتابه الصادر حديثا “الأسد: انتصار الطغيان” وجد أن الطريقة التي نجا فيها الأسد وأسماء كانت لأنهما عاشا في عالمين متوازيين: سرد بنوه لأنفسهما وصورهما بأنهما ضحيتان بريئتان للانتفاضة العنيفة وأجبرهما على الدفاع عن البلد وشعبه.