لا يبحث جهاد أزعور عن وظيفة في الدولة اللبنانية. الرجل المجتهد علمياً سيبلغ أعلى المناصب الدولية، ويراكم سيرة ذاتية مسهبة في الاقتصاد والإدارة والسياسة والعلاقات الدولية. طموحه اليوم أن يكون جسر عبور من الانهيار نحو التعافي، لا أن يفجّر نفسه في الجسر أو على ناصية مجلس النواب. الانتحار ليس رغبة، لكن حقل الألغام اللبناني مليء بالمصائد. الأكيد أن ما جرى في 14 حزيران لم يطوِ الصفحة حتى اللحظة.
يعود اهتمام أزعور بالسياسة الى فترة سبعينيات القرن الماضي. شخصيتان سياسيتان جذبتاه في سنوات المراهقة: ريمون إده وكمال جنبلاط.
تنحدر عائلة أزعور من سير الضنية الشمالية، لكن النشأة والإقامة كانتا في جبيل مدينة التنوّع رغم الاختلافات.
كان لشخصية ريمون إده عميد “الكتلة الوطنية” والنائب الجبيلي سحر خاصّ لدى أزعور، صنوه الاستقامة والمواقف المبدئية والمقاربة الديموقراطية وعدم الانغماس في الحرب.
أما كمال جنبلاط فهو صديق الخال النائب السابق الراحل جان عبيد المعروف بانفتاحه وحواريته وصداقاته المتنوّعة، ومنها مع الزعيم الزغرتاوي الرئيس الراحل سليمان فرنجية.
وبين الرجلين الملهمين في السياسة، خيط صلب: الانفتاح لا يعني ألّا تكون صاحب رأي وموقف وقضية.
نشأ أزعور في عائلة عصامية بين خمسة أشقاء، إذ تدرّج والده الراحل بدوي من العمل نجاراً الى أن أصبح صاحب مصنع وسافر الى السعودية في سياق رحلة بناء المهنة والأعمال. وعُرف عنه قربه من أبناء بلدته سير الضنية، وهو ما دّلت عليه مراسم وفاته الحاشدة.
استثمرت العائلة التي انطلقت من الطبقة الوسطى في تعليم أبنائها. وذهب جهاد المتزوّج بالسيدة رولا رزق والأب لولدين، جاد وكريم، أشواطاً في مراكمة الدرجات العلمية، حين تابع تحصيله في جامعة باريس 9 – دوفين وحصل على شهادة ماجستير في علم الاقتصاد التطبيقي في الاقتصاد والمال، وحصل بعدها عام 1996 على شهادة دكتوراه في العلوم المالية الدولية من معهد باريس للدراسات السياسية (IEP).
دخل السياسة اللبنانية عام 1999 مدير مشروع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في وزارة المال من أجل “تعزيز القدرات والإدارة المالية”، ومستشاراً رئيسياً لوزيري المال جورج قرم (حتى تشرين الأول 2000) ثم فؤاد السنيورة (تشرين الأول 2000 - تشرين الأول 2004). وفي تموز 2005 عُيّن وزيراً للمال بينما كان يتجه للانضمام إلى صندوق النقد الدولي، وتولى المنصب حتى 2008. وشهدت تلك الفترة، ظروفاً صعبة من حرب نهر البارد وحرب تموز وأحداث 7 أيار، ولم يخلُ العمل السياسي لفريق سياسي من مواجهة الموت. وستصبغ سنوات وجود أزعور في حكومة السنيورة مسيرته بالنسبة الى المعارضين للسياسات المالية في تلك الفترة وتحميلها إزراً كبيراً في مسار الانهيار ومراكمة الديون، رغم تفنيد أزعور للملفات الإصلاحية التي أنجزها في الوزارة. وفي تعداده، اعتماد الضريبة على القيمة المضافة، وتحديث قانون الجمارك وإعادة هيكلة التعرفات، ووضع مسار حديث لإتمام المعاملات الجمركية، وغيرها.
ما الذي يجذب إنساناً ناجحاً في مؤسسة دولية الى وحل السياسة اللبنانية؟ الى مساحة اللاإنجاز والتعطيل؟ وتجربة عهد الرئيس ميشال عون لم يُشفَ لبنان من تبعاتها بعد. العهد الذي انبثق من تسوية رئاسية قبل أن يقبع في قعر الاستقطاب الحادّ.
لا بدّ أن أزعور في آخر سنوات عقده السادس (مواليد 1965) يستمع الى السؤال السالف تكراراً. ولا ريب ألا يعرف لبنانيون طبيعة المهام الملقاة على عاتق الرجل في صندوق النقد الدولي. تتمثّل مهمته في الإشراف على عمل الصندوق في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى والقوقاز، أي على منطقة تغطي أكثر من 32 دولة وتمتد من حدود الصين وروسيا إلى شمال أفريقيا وشرقها، وتضمّ دولاً كالمملكة العربية السعودية ومصر وإيران وباكستان والإمارات وكازاخستان والمغرب وجورجيا وأرمينيا، وغيرها. وهو مسؤول بالتالي عن منطقتين شديدتي التنوّع تشملان أكثر من نصف صادرات النفط العالمية. وخلال فترة عمله، قدّم الصندوق أكثر من 50 مليار دولار دعماً مالياً للمنطقتين. وأشرف أزعور بهذه الصفة على برامج إصلاحات في بلدان كمصر وباكستان والأردن وتونس وجورجيا، وسواها.
وأسهم في الإستراتيجية الشاملة للمؤسسة وفي التنسيق مع المؤسسات الدولية والإقليمية الأخرى، بالإضافة إلى الدول المانحة. وجُدّدت ولاية أزعور مرتين، ومُدّدت حتى عام 2026.
تنطلق مقاربة أزعور، في حيّز كبير، من الظروف الصعبة التي يمرّ بها لبنان ومن تجربته المهنية التي قد تمكّنه من تجيير معرفته وخبرته في إدارة الملفات الشائكة وعلاقاته الخليجية والعربية والدولية لمصلحة لبنان.
في بلدٍ فقد مواطنوه الأمل وهاجر مبدعوه وواجه خطر الزوال، وانهارت فيه القطاعات الصحّية والتعليمية، وانعزل عن العالم بعد نحو أربع سنوات من الأزمة الشديدة، للمحاولة معنى، خصوصاً من شخص خبِر مشاكل الإدارة اللبنانية وصعوبات الدولة، فلا يلبس عباءة الخبير الذي يسقط من فوق. ويسند عارفو أزعور إليه طاقة حوارية وانفتاحية، وحرصاً على عدم التمترس في خانة حزب أو قوة سياسية.
لكن الأمر لم يكن كافياً لإقناع محور الممانعة و”#حزب الله” تحديداً الذي لا يرى فيه سوى مرشح صندوق النقد وظلّ الرئيس فؤاد السنيورة لسنوات ماضية ومرشح أميركا، ومرشح مواجهة ومرشح أضداد. كل ذلك.
حرص الرجل على لقاء “حزب الله” وتناول رؤيته غير الصدامية. تشدّد مقاربته على الثقة لتبديد الهواجس، إضافة الى أن صلاحيات رئيس الجمهو رية معروفة لكونه يترأس المجلس الأعلى للدفاع، وليس من بين الأفرقاء السياسيين في المعارضة من يحمّله إزر نزع سلاح “حزب الله”. لا يميل الرجل الى إثارة مواضيع صدامية وتوسيع فجوة الاختلاف ولا سيما في فترة راهنة يحتاج فيها لبنان للنهوض من الكارثة الاقتصادية. وبالعودة الى طاولات الحوار التي تناولت الاستراتيجية الدفاعية، مسار للجلوس على طاولة حوار وتناول المواضيع الخلافية، وإيجاد الحلول الواقعية تحت مظلة الشرعية.
علاقة أزعور مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري مستمرة، ولا انقطاع. وفي كل هذه العملية، محاولة لكسر الخنادق والقول بأنه رجل تفاهمات.
بالحديث عن صندوق النقد، عودة الى إدارة الحكم في البلاد، وتذكير بأن الاتفاق مع الصندوق وقعته قوى سياسية متنوّعة، ولا يعطي دستور ما بعد الطائف للرئيس صلاحية أحادية. الحكم مشاركة، لذا تصبح المحاججة بأنه مرشح الصندوق الدولي ضعيفة مع القدرات التعطيلة على جبهتي الحكومة ومجلس النواب. وقد لوحظ أن الرجل أبعد نفسه بحكم قوانين الصندوق لناحية تضارب المصالح عن المفاوضات مع لبنان ومسارها.
وإن بقيت رؤيته لمسألة مصير الودائع وتوزيع الخسائر حمّالة أوجه، مع اتهام معارضيه له بأنه يتبنّى رؤية الصندوق وما يمكن أن ينال من حقوق الناس، ومع حديث من انتخبه عن تج رّع السم ربطاً بهذا السياق، فإن المطلعين على رأي أزعور يحكون عن رفض المقاربة الجزئية للحل، وضرورة اعتماد معايير تنصف الناس الذين ظلموا وسلبت حقوقهم. وسمعوا منه تأكيداً لدور الرئيس في حماية مصالح الناس وتأمين استقلالية القضاء وحماية المؤسسات.
ويبقى الحوار أساساً وإعادة الروح للتنافس الديموقراطي من دون تهديد، والتعجّب أن يكتشف الأفرقاء الحاجة الى الحوار فقط بعد الجلسة الـ12 لانتخاب رئيس جمهورية، لا من بداية الطريق. لا يميل أزعور الى المغامرة بل هو صاحب خطة مدروسة، والمرجح أنه مستمر حتى اللحظة في ما بدأ ولا سيما أنه نال 60 صوتاً، وما دام يلمس أن الظروف الموضوعية تتيح له الاستمرار في التنافس الديموقراطي، أو بالأحرى ما دام يرى أن الخدمة العامة التي يعرضها هناك من يتلقفها ويطلبها للمساهمة في مساعدة لبنان. لا يريد أزعور أن يفجّر نفسه بل أن يحلّ مشكلة. أما الهجوم الذي تعرّض له والملفات التي سيقت ضده، فلن تبقى من دون ردّ علمي مفنّد في الأيام المقبلة. لم يقدّم أزعور ترشّحه الى الرئاسة بل إن أطرافاً مختلفة رشّحته، والأرجح أنه لا يضع لنفسه سقفاً زمنياً بل يقرأ الظروف الموضوعية جيّداً. يستنتج عارفوه أنه يضع لنفسه هدفاً وطنياً، إن لم يتحقق، فهو لا يبحث عن وظيفة في الدولة اللبنانية.
النهار