"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

دروس كتاب "منطلق تاريخ لبنان" للمؤرّخ كمال الصليبي

نبيه العاكوم
الثلاثاء، 28 مارس 2023

يقول المؤرخ كمال الصليبي في مقدمة كتابه “منطلق تاريخ لبنان” إن التمسك بالصواب التاريخي في بعض الأحيان أصعب من الاعتراف بالخطأ والعودة عنه، وذلك على الأخصّ عندما يكون الخطأ التاريخي جزءاً هامّاً من أسطورة موروثة أو موضوعة يقوم عليها المجتمع. ويضيف أيضاً في معرض إنتقاده ل”أصحاب الأساطير”، كما سمّاهم، أنهم “على اختلاف نزعاتهم، يخادعون الناس ولا يخدعون إلا أنفسهم وبعض المتفقين معهم في هذا الغرض أو ذاك. إذ ما من لبناني عادي، ممّن يهتم بالاطلاع على ما يُكتب حول موضوع تاريخ لبنان، إلا ولديه من حسن الفطرة والإدراك ما يمكنه أن يفرّق تلقائيًا، وبكل سهولة، بين الحقيقة والزغل (الغش)، وبين الرأي الصادق المعقول والرأي المغرض المشوّش. هذا مع العلم بأن حبل الأسطورة (وهي ضرب من الكذب) قصير، وأن وعي الحقيقة التاريخية المجرّدة من قبل الخاصة والعامة هو ـ في نهاية المطاف ـ خير أساس يُبنى عليه المجتمع السليم. ولعلّ الإمعان في تزوير التاريخ اللبناني من قبل المتمسكين بالأساطير على أنواعها -وجميعها أساطير تفرق اللبنانيين ولا تجمعهم -هو من أهم الأسباب التي ما زالت تعمل على تمزيق المجتمع اللبناني وتفتيته. ولعلّ قول الحقيقة التاريخية البسيطة في الموضوع وإبداء الرأي الصريح فيها مع الاعتراف الكامل بحدود الصواب في الرأي، هو خير علاج لما نتج حتى الآن في البلاد عن التزوير التاريخي من ضرر”.

منطلق تاريخ لبنان

يقدم لنا الصليبي دراسة عن كيفية الانطلاق بقراءة صحيحة وموضوعية لتاريخ لبنان، مع إظهار الحجّة العلمية والفكرية بإيجاز على ما يقوله، وللخروج من نطاق الأسطورة إلى نطاق الحقيقة، رغم أن الفترة التي يتحدث عنها، وهي الواقعة بين ظهور ظهر الإسلام وزوال دولة المماليك في بلاد الشام ومصر على أثر الفتح العثماني، هي أكثر الفترات غموضاً، وذلك بسبب ضآلة المعلومات الثابتة المتوفرة، مما جعل أصحاب الخيال ينسجون حولها من القصص ما لا يمتّ إلى الواقع بصلة.

ويؤكد الصليبي أنّ تاريخ لبنان في هذه الفترة لا يمكن فصله عن تاريخ بلاد الشام والمشرق إلا عن طريق التحديد المصطنع. وأن الأوضاع السياسية والاجتماعية الخاصة، جعل التاريخ اللبناني، ابتداءً بأوساط العهد العثماني، ينتهج نهجاً خاصاً متميّزاً إلى حد كبير عن تاريخ سائر المناطق الشامية.

يذهب بنا الصليبي إلى “العصور الوسطى” حيث عمل على تقصي جذور تأسيس الكيان التاريخي للبنان، فوجد أنّ المناطق اللبنانية كانت مسرحًا لتطوّرات اجتماعية مهمّة، منها ما يتعلق بظهور الطائفة المارونية وتطوّر علاقاتها بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية من جهة، ومع الدول الإسلامية القائمة من جهة أخرى، ومنها ما يتعلق بظهور طائفة الدروز، ونجاح بعض زعماء هذه الطائفة في خلق مؤسسات إقطاعية وراثية في مناطقهم، ممّا ضمن الاستمرار التاريخي لزعاماتهم في ما بعد.

من ناحية المصادر، لم يستند المؤرخ الصليبي على مصدر واحد فقط متجاهلاً باقي المصادر، بل قام بتدقيق نقدي لها.

وحذّر من الإسناد إلى ما يرد في كتابات ابن القلاعي، الذي يتصف حسب رأيه بالنمط الأسطوري الواضح الغرض، من دون الإمعان في التدقيق النقدي، وعدم الأخذ بعين الاعتبار محاباة صالح بن يحيى وابن سباط، المؤرخين الدرزيين، لغرض آل بحتر دون الأسر المناوئة لهم في المناطق الدرزية.

وأخيراً قدم الصليبي نصيحة للقارئ أو لكاتب التاريخ أن يضع في حسابه المنطلق الجدلي الذي ينطلق منه البطريرك المؤرخ اسطفهان الدويهي في كلامه عن أصل الموارنة. وما أجملها من عبرة حين قال “وقد يكون للقارئ العادي في بعض الأحيان رأي في القضايا التاريخية أصوب من آراء أهل الاختصاص. لذلك يجدر بالمؤرّخ المدقق أن يجلّ رأي القارئ العادي وألا يتردد عن الأخذ به إذا كان مصيبًا. فالتاريخ، من الناحية الفكرية، مشاع لكلّ من يهتم به والكلمة الفصل غير واردة في موضوعه، مهما كان مصدرها”.

“منطلق تاريخ لبنان” دراسة لا غنى عنها لكل مهتم في قراءة مميزة وعلمية لتاريخ الأراضي اللبنانية، ابتداءً من الفتح الإسلامي وفترة مجيء الموارنة إلى الجبل اللبناني وتفصيل اختلافهم العقائدي عن الملكية وانشقاقهم عنها، ثم تقربهم لكنيسة رومية إلى حين دخولهم في طاعة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في أواسط القرن الثاني عشر، مروراً بالأحداث التي رافقت تفكك الأراضي الإسلامية إلى دويلات في فترة ضعف الخلافة العباسية، وظهور الدولة الطولونية ثم الإخشيدية ورافق ذلك صعود الدولة الفاطمية وغزوات القرامطة للأجناد الجنوبية من الشام.

إنّ كل هذه الأحداث مهدت لاحقاً وسهّلت دخول الجيوش الصليبية إلى بلاد الشام، وقام الصليبي بالتدقيق في موقف الموارنة المنقسم تجاه التقرب من الفرنجة وفكرة الإتحاد مع كنيسة رومية والوصول إلى الفتنة وانتخاب بطريركين، البنهراني والدملصاوي. والتركيز على فترة التحرر من الفرنجة على أيدي المماليك والحملات الكسروانية التي أحدثت تغييراً وتبدلاً جذرياً على كافة الأصعدة، الإجتماعية والسياسية والسكانية، وأيضاً في فترة الإنتقال من حكم المماليك البحرية إلى المماليك الجراكسة وانعكاس ذلك على الأوضاع الداخلية للبنان.

وحتى لا يشعر القارئ بالملل، آثر المؤرخ الصليبي أن يلوذ بالإيجاز في الإشارة إلى المصادر وفي إظهار الحجّة العلمية والفكرية على ما يقوله، مبتعداً عن التفصيل في الإسناد والتعليل، وقدّم للمهتم في الدخول في التفاصيل مجموعة من الكتب بقلمه، منها “موارنة لبنان تحت حكم الفرنجة والمماليك”، و”الكنيسة المارونية في العصور الوسطى واتحادها مع رومية”، و”آل بحتر أمراء بيروت والغرب في العصور الوسطى” وغيرها.

المقال السابق
"القوات اللبنانيّة" ترد على قعقور ومنيمنة

نبيه العاكوم

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

هل يقتدي "حزب الله" بإيران "الفخورة" بضبط النفس بعد اغتيال هنية؟

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية