مع نهاية كل عام وبداية آخر، ينكب بعضنا على إجراء جردة تذكيريّة بأهم الأحداث التي مرّت، ويغامر بعضنا الآخر باستشراف ما يمكن أن يحصل في العام الجديد، في منافسة غير متكافئة مع العرّافين والبرّاجين والمشعوذين!
وعلى الرغم من أنّني “تاريخيًّا” لم أشذ عن القاعدة الجماعيّة، إذ كنتُ أنتمي أحيانًا الى الأرشيفيّين وأحيانًا أخرى الى “المتنبئّين”، إلّا أنّه تبيّن لي مؤخرًا أنّ الأهم ليس في ما حصل – وقد فات- أو سوف يحصل- وهو مفاجئ- بل في الدروس التي يمكن أن نستخلصها من تجارب كلّ عام يمر، والسعي الى الإستفادة منها، وتطبيقها، كليًّا أو جزئيًّا، في العام الجديد.
وتراكم التجارب ساعد الإنسانيّة على تطوير نفسها، ليس من باب التغنّي بعظمة الجنس البشري بل من باب اكتشاف نقاط ضعفه في مواجهة الأجناس الأخرى. وقد أدى هذا التعامل الصادق مع نقاط الضعف الى تخيّل أدوات القوة، فكانت الإختراعات تتوالى مع توالي معرفة الحاجة، بدءًا بالنار والحجر وصولًا الى الآلة والإنترنت!
والعام 2023 لم يشذ عن قاعدة اكتشاف الإنسانيّة لنقاط ضعف جديدة فيها، من شأنها أن تعيد من يبقى حيًّا منّا ومن أبنائنا وأحفادنا الى زمن ما قبل اكتشاف النار والحجر. لا أتحدّث هنا عن ارتفاع حرارة الأرض، ولا عن تفشي التلوّث في البيئة، ولا عن ترقب انتشار أوبئة فتاكة جديدة أخطر بكثير من النسخة الأولى من فيروس كورونا، ولا عن تفلّت الذكاء الإنساني من تحكم خالقه، بل عن قتلنا، من دون إدراك، للديموقراطيّة، بتحويلها الى فوضى من شأنها أن تروّج للديكتاتوريّات العنيفة التي طالما أدخلت الإنسانيّة في حروب مدمّرة وقاتلة!
ومن يدقق بمدى ارتفاع شعبيّة النماذج الديكتاتوريّة، كما هي مثلًا حال الصين وروسيا، يدرك أنّ الخطر المحدق بالإنسانيّة كبير للغاية.
وفي ذلك ليس هاجسي استمرار تفوّق الغرب عمومًا والولايات المتحدة الأميركية خصوصًا، إذ تتراكم عليهما “اطنان” من المآخذ، إنّما حماية الفرد وحقوقه، ولو بالحد الأدنى، من “دعس” ديكتاتوريّة الحزب الواحد والحا كم الواحد والعقيدة الواحدة!
وهذا الحد الأدنى متوافر حتى إشعار آخر في الأنظمة الديموقراطيّة التي وجدت في الفوضى التي نساهم جميعًا بنشرها، أكبر عدو لها!
وتبدأ الفوضى في التجنّي على الحقيقة، وما أكثر الأكاذيب التي نسارع الى تصديقها فقط لأنّها تخدم هوانا الشخصي.
بطبيعة الحال، أتجنّب الحديث التفصيلي عن الحروب بما فيها تلك التي تعصف بنا، وعن الظالم والمظلوم فيها، على اعتبار أنّها جزء من الفوضى التي تساعد على الترويج للديكتاتوريّات، بصفتها انتماء انتقامي من عجز الديموقراطيّات وانحيازها لهذا الطرف على حساب ذاك، على الرغم من أنّ التدقيق في مسبباتها يُظهر تصادمًا بين انتماء ديكتاتوري هنا وانحراف الى الديكتاتوريّة، هناك!
وعليه، فإنّ العام 2024، وعملًا بالتجارب المستقاة من العامين 2022 و2023، يبدو بالنسبة لي، في حياتي الخاصة كما في حياتي المهنيّة، عام التعلّق بالحقيقة حتى لو كانت تتعارض مع أهوائي، لأنّ استسهال تصديق الشائعات، هو مساهمة في تعميم الفوضى التي، بنهاية المطاف، تقودنا جميعًا الى درك جديد من أدراك جهنّم.
وفي النهاية، وعملًا بتأملاتي في دروس العام الراحل، فإنّ كلّ شيء لا ينعكس على سلوكيات الفرد ولا يدخل تعديلات على أهوائه وأفكاره وعقائده، يستح يل أن ينتقل الى سلوكياته العامة!
أتمنى لكم في العام الجديد قدرة على استخلاص الدروس من التجارب التي مررتم بها في العام المنصرم، لأنّه بذلك وحده يتقدم الإنسان ويخرج من دوّامة المشاكل التي أخطر ما فيها أنّها إنْ لم تعالج تتفاقم!