أظهرت سلسلة من الدراسات النفسية أنه مع اعتلاء أي شخص للسلطة، تتغيّر نظرته وسلوكه تجاه الآخرين، ووصفت ذلك بالانحدار الذي يؤدي إلى التركيز على الذات وفقدان الاتصال مع الواقع.
قد لا تشمل الانحرافات الناجمة عن السلطة القطاع السياسي فحسب، إنما تتخطاها لتصل إلى قطاعات المال والأعمال والفن والرياضة، كما قد تظهر أيضًا بين الأصدقاء والأزواج والأبناء… فمتى انعدمت المحاسبة كثر الاعوجاج.
وأثبت الطبيب النفسي آدم غالينسكي هذه النظرية في دراسة قام بها وفريقه من مدرسة كولومبيا للأعمال، إذ طلب من فئة من المشاركين سَرْد تجاربهم إزاء حدث كانوا فيه في موقع نافذ، في حين كان على الفئة الأخرى من المشاركين أن تروي واقعة كانوا هم فيها من “التابعين”، وبسبب تنشيط ذاكرتهم، تحوّل أداؤهم هذا كقادة وخاضعين إلى واقع، في الجزء المتبقي من التجربة.
بعد ذلك تمّت دعوة المشاركين إلى الانتقال إلى غرفة منفصلة حيث وضعت على طاولة مروحة ضخمة تنفخ هواءً باردًا على وجوههم، ليتبيّن أن اثنين من ثلاثة مشاركين من الفريق الأول (النافذين)، قاموا بتغيير وجهة “المروحة المزعجة” من دون تردد، بينما الثلث فقط من الفريق الثاني، تجرأ على القيام بذلك، ما تمّ تفسيره من قبل غالينسكي بأنّ “الأشخاص الذين لديهم السلطة، يعيشون في عالم مغاير تمامًا لأولئك المسيطَر عليهم، ويعبّرون عنه من خلال السلوك الخاص بهم، فالشخص العاجز يتصرّف بحماقة ويركز أكثر على احتياجات الآخرين ويخاف من العقوبة، على عكس المهيمن الذي يسعى أكثر وأكثر إلى الراحة والمكتسبات والحرية، من خلال تدليل نفسه وإرضاء ذاته”.
وفي تجربة أخرى قام فريق غالينسكي بتمرير صحنًا من الحلويات بين هؤلاء المشاركين، وقام بمراقبتهم من خلال كاميرات خفيّة، فتبيّن أن الأشخاص “المسيطرين” هم الذين أمسكوا بالقطعة الأخيرة، وكانوا يلتهمونها بطريقة غير لائقة تاركين بقايا من فتاتها حول أفواههم، وهذا ما كانت قد أكدته عدد من الدراسات، بأن الأفراد النافذين، على الرغم من اهتمامهم بصورتهم وسمعتهم، لا يعيرون اهتمامًا للقواعد الاجتماعية، ويُبَدّون المصلحة الشخصية على العامة.
الجشع.. مؤنث أم مذكّر؟!
من المسلّم به أنّ كلّ من يسعى بأي ثمن إلى الجلوس على “كرسي الزعامة” يث ير بشكل غريزي الشكّ والريبة، إلا أن ذلك ينطبق بشكل أقل على السيدات، ففي بحث لداتشر كيلتنر، عالم النفس الاجتماعي من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، قام بدراسة التسلسل الهرمي في إحدى جمعيات الطالبات الأمريكيات، فلاحظ، أن النساء الشابات اللواتي أظهرن سلوكًا جشعًا كنّ أكثر عرضة للانتقاد وكان ينظر إليهن بأنهنّ أقل كفاءة على شغل المناصب العليا، في حين تبيّن أنّ السيدات اللواتي أثبتن كفاءتهن الاجتماعية والتزمن بخدمة مصلحة المجموعة كنّ أكثر تأثيرًا، مما يعني أن النساء اللواتي يظهرن سلوكًا مسيطرًا يتمّ معاقبتهنّ بالإقصاء، على عكس الرجال، بحيث تتمّ مكافأتهم بتولّي المناصب.
ولكن، لماذا ما هو محلّل للرجل محرّم على المرأة؟
قد تلعب الفوارق البيولوجية والعوامل الهرمونية دورًا في السلوك العدائي والفوقي لدى الرجال، وهذا ما أكده داتشر كيلتنر عندما قال إنّ مستوى هرمون التستوستيرون عند رجال السلطة يكون مرتفعًا ويضعهم في حالة سوء سلوك مميّزة، ما يفسّر سوء تصرفهم مقارنة بالسيدات.
“المكيافيلية و”مثلّث الظلام
ربما، لم يكن يعلم الفيلسوف السياسي الفلورنسي نيكولو مكيافيلي عندما كتب “تحفته الشهيرة” “الأمير” مع بداية القرن السادس عشر، أن مصطلح “المكيافيلية” سيصبح مرادفًا للمكر والازدواجية لدى السياسيين، ولا كان ليخطر بباله أن علم النفس الحديث سيخصص له هذا الاهتمام الواسع، وأنّ المكيافيلية مع النرجسية والسيكوباتية، ستشكّل ما يُعرف بـ “مثلّث الظلام”، حيث أنّ الأشخاص بشكل عام والقادة بشكل خاص، الذين يظهرون هذه السمات الثلاث، يكون لديهم جشع للممتلكات المادية والهيمنة الاجتماعية.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد يكون ما نعيشه اليوم في روسيا والصين وإيران وإسرائيل أقرب مثال على ما تقدّم، فاستغلال وتسخير حكام هذه الدول لموارد بلادهم الطبيعية ومؤسساتها العسكرية والقضائية والدينيّة لأهداف توسعيّة على حساب رفاهية وأمن واستقرار شعوبها الرازحة تحت دوامة طغيانها… خير مثال على ما تقدّم.