مئير إلران، أورنا مزراحي، أرييل هايمان وعنات شابيرا
الغرض من هذه المقالة يتمثل في تقييم حجم الأضرار التي يمكن أن تلحق بالجبهة الداخلية الإسرائيلية في حرب شاملة وعالية الكثافة مع حزب الله، والتي من المحتمل أن تصبح متعددة الجبهات، بمشاركة جميع عناصر “جبهة المقاومة”، وتأثيرها في الصمود الإسرائيلي. من دون الإشارة إلى الاعتبارات العسكرية والسياسية، على الرغم من أهميتها الشديدة. يعتمد هذا التحليل كثيراً على خصائص الحرب، مَن هو الطرف الذي سيبدأ بها، أو يتسبب بها، ومدة استمرارها، وما هو نطاقها الإقليمي، وما هي أضرارها على السكان المدنيين، وما هو هدفها الاستراتيجي من وجهة نظر إسرائيل، وما هي إنجازاتها. فمن المتوقع أن تكون الحرب الهادفة إلى إزالة تهديد حزب الله طويلة الأمد وذات عواقب وخيمة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
بعد يوم على هجوم حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بدأ حزب الله بخوض حرب استنزاف مستمرة ضد إسرائيل. لم يتوقف هذا الاستنزاف إلا خلال وقف إطلاق النار في قطاع غزة، في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، في موعد إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. تتميز الحرب في الشمال ب أنها ذات كثافة نارية متفاوتة، لا تزال محدودة في نطاقها، لكنها تشهد اتجاهاً تصاعدياً ملحوظاً، على الرغم من تجنُّب الجانبين اتخاذ خطوات قد تؤدي إلى حرب شاملة، بمشاركة عناصر أُخرى من “جبهة المقاومة”، بقيادة إيران أيضاً، في القتال ضد إسرائيل في المحور نفسه.
في الآونة الأخيرة، وفي أعقاب اغتيال “أبو طالب”، أحد كبار ضباط الحزب، في 12/6/2024، ردّ الحزب بوابل غير مسبوق، تضمّن إطلاق مئات الصواريخ والمسيّرات الانقضاضية على أهداف - عسكرية، في معظمها - في شمال البلد. على هذه الخلفية، كُثفت في الخطاب العام الإسرائيلي الدعوات إلى شنّ عمليات هجومية واسعة النطاق ضد حزب الله، بهدف القضاء على التهديد الشمالي، وصولاً إلى عودة أكثر من 60 ألف مهجر إلى بلداتهم. كما دارت أفكار مماثلة داخل الجيش الإسرائيلي. بتاريخ 4/6/2024، صرّح رئيس هيئة الأركان قائلاً: “نحن نقترب من النقطة التي سيتعين علينا فيها اتخاذ قرار، والجيش الإسرائيلي مستعد وجاهز لهذا القرار”.
حتى الآن، قام حزب الله بإطلاق أكثر من 5000 مقذوف من أنواع مختلفة، معظمها من لبنان، على أهداف مدنية وعسكرية داخل إسرائيل، وهو ما أسفر عن مقتل 29 شخصاً، من مدنيين وعسكريين، وأضرار جسيمة. والأهم من ذلك كله، ازدياد الشعور باليأس بشأن مستقبل الحدود الشمالية، و28 مستوطنة مهجورة، وكريات شمونة وسكانها الذين يتساءلون متى، وفي أيّ ظروف، سيتمكنون من العودة إلى ديارهم.
لقد أصبح حزب الله، بصفته رأس الحربة لـ “محور المقاومة” بقيادة إيران، منذ حرب لبنان الثانية، التهديد العسكري الأخطر لإسرائيل، وذلك بسبب تسليحه الهائل من جانب إيران. وتتكون الترسانة الرئيسية التي يمتلكها الحزب من 150 ألف صاروخ وقذيفة ومقذوفات إحصائية [غير دقيقة الإصابة، كقذائف الهاون والصواريخ الأقل تطوراً]، إلى جانب مئات الصواريخ الدقيقة التوجيه وذات المدى المتوسط، أو الطويل، والتي تغطي المنطقة الآهلة بالسكان في إسرائيل. يكمن الضرر المحتمل الرئيسي لهذه المخزونات في الصواريخ الدقيقة، بما في ذلك صواريخ كروز، والصواريخ الباليستية، والصواريخ المضادة للدبابات القصيرة المدى، والصواريخ البحرية المتطورة، وآلاف المسيّرات الانقضاضية والمروحيات المسيّرة، فضلاً عن أنظمة الإنترنت المتقدمة، القادرة على إحداث خسائر فادحة في الأرواح وأضرار جسيمة في الأهداف المدنية والعسكرية، بما في ذلك الشبكات والبنى التحتية الوطنية الحيوية. إن الموارد العسكرية لحزب الله أكبر - كماً ونوعاً - بعشر مرات من تلك التي كانت حركة “حماس” تمتلكها قبل اندلاع الحرب. استراتيجياً، علينا أن ندرك أن حزب الله لديه البنية التحتية والقدرات العسكرية لخوض حرب طويلة جداً، ربما تستمر عدة أشهر، يُلحق خلالها أضراراً جسيمة بإسرائيل.
الحرب الواسعة النطاق ضد حزب الله، تفرض على أنظمة الدفاع الجوي للجيش الإسرائيلي التعامل مع وابل من عمليات إطلاق ما يصل إلى آلاف الصواريخ والمقذوفات يومياً، بحيث لا يمكن اعتراضها كلها لفترة طويلة - وبصورة خاصة في الأسابيع الأولى من الحرب. هذه المقذوفات التي ستأتي أيضاً من جبهات أُخرى، مثل إيران والعراق وسورية واليمن، يمكن أن تتسبب بإنهاك طبقات الدفاع الجوي الإسرائيلية، وربما بنقص في مخزون ذخائر وسائل الاعتراض. يُعتبر الأمر تهديداً عسكرياً ومدنياً لم تشهده إسرائيل من ذي قبل، إذ سيحتاج الجيش الإسرائيلي، في حال تحقّق مثل هذا السيناريو، إلى تحديد أولوياته، سواء بين ساحات القتال المتعددة، أو فيما يتعلق بتخصيص الموارد للدفاع الفعال عن الجبهة الداخلية. من المتوقع أن يعمل سلاح الجو في المقام الأول على الدفاع عن المواقع العسكرية الحيوية، وفي المقام الثاني، على الدفاع عن البنى التحتية الحيوية، بينما تنسحب أهمية الدفاع عن الأهداف المدنية إلى المقام الثالث، حيث سيكون لتقبُّل الإسرائيليين تنبيهات قيادة الجبهة الداخلية أهمية كبيرة في حمايتهم، إلى جانب وسائل أُخرى (الملاجئ بأنواعها)، والتي تُعد قليلة، مقارنةً بعدد السكان.
الدفاع عن البنية التحتية الوطنية الحيوية له أهمية كبيرة لاستمرارية الأداء المطلوب للبيئة المدنية والعسكرية في حالات الطوارئ. هذه الأنظمة حساسة، بما في ذلك شبكة الكهرباء، والاتصالات، وشبكات النقل البري والبحري والجوي، وسلاسل التوريد من خارج البلد وداخله. يمكن أن يحدث الضرر المحتمل بإمدادات الكهرباء أيضاً بسبب الإصابات المباشرة لمرافق الإنتاج والنقل والتوريد، فضلاً عن التهديد المحيق بمنصات إنتاج الغاز. فقد تتضرر هذه المنصات نفسها، أو تتوقف عن الإنتاج لأسباب دفاعية، وهو ما قد يتسبب بانقطاع التيار الكهربائي؛ محلياً ووطنياً، سيكون لمثل هذا السيناريو عواقب وخيمة على استمرارية العمليات، وأداء الاقتصاد الوطني، ويلقي بظلال وخيمة على كل مواطن في البلد.
القدرة على الحفاظ على الاستمرارية التشغيلية المدنية الدنيا في الحرب تُعتبر عنصراً أساسياً في الحفاظ على الصمود الوطني، وهي المنصة الرئيسية لضمان التعامل المدني الفعال مع التهديدات على المستويات الوطنية والاجتماعية والشخصية. كما أن المخاطر الكامنة في الحرب المتعددة الجبهات، وخصوصاً إذا حدثت بالتزامن مع استمرار الحرب في قطاع غزة، تنطوي على تحديات كبيرة للبنية التحتية الحيوية وللمدنيين معاً، إلى جانب العقبات المستمرة التي تعترض الت عافي من أضرار الحرب في المجالات المادية والنفسية.
على خلفية هذا كله، يُشار إلى أن إسرائيل لا تزال تعاني جرّاء صدمة جماعية متواصلة، تُلحق أضراراً جسيمة بقدرتها على الصمود. يتجلى هذا الوضع في مؤشرات الحصانة التنازلية لدى الجمهور، بحسب استطلاعات الرأي العام التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي، وفي استطلاعات أُخرى: ويتضح من استطلاعات الرأي العام التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي، أن هناك انخفاضاً ملحوظاً في الآونة الأخيرة في القدرة المجتمعية الإسرائيلية على الصمود، مقارنةً بالأشهر الأولى من الحرب. يتجلى هذا الأمر في انخفاض كبير في مستوى التضامن والثقة بمؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش الإسرائيلي، وفي مستوى التفاؤل والأمل لدى أغلبية الجمهور. فضلاً عمّا يُعتبر “جموداً” في الحرب في غزة، وبصورة خاصة في مواجهة الانقسامات الاجتماعية المتعمقة، والخلافات السياسية التي تمزق المجتمع، والخطاب العام المليء بالكراهية. بعد أشهر طويلة من الحرب في قطاع غزة، التي اعتُبرت في البداية “حرباً عادلة”، والتي أدت في بدايتها إلى وحدة الإسرائيليين خلف رايتهم الوطنية، بات هناك شك في مدى استعداد المجتمع الإسرائيلي، نفسياً ومادياً، لحرب صعبة وطويلة على الحدود الشمالية أيضاً.
هناك أقل من عشرة في المئة من المواطنين الذين تضررت استمرارية أدائهم بشدة، على مستويات مختلفة، ولأسباب مختلفة (عائلات القتلى؛ المخطوفون؛ الجرحى؛ المصابون بالصدمة النفسية؛ فضلاً عمّن تم تهجيرهم من منازلهم في جنوب البلد وشماله، وجنود الاحتياط وعائلاتهم). أمّا الباقون فهم يعملون، ولو في ظل ضغط نفسي شديد - بطريقة طبيعية إلى حد ما. وبالتالي، من المتوقع أن يساهم هؤلاء في حركة الانتعاش المطلوبة، بعد انتهاء الحرب في قطاع غزة. من ناحية أُخرى، وفي حال اندلاع حرب طويلة الأمد ومتعددة الجبهات ضد حزب الله وشركائه، فمن المتوقع أن يكون الضرر باستمرارية الأداء من نصيب عدد كبير من المواطنين. ولهذا عواقب وخيمة على قدرة معظم مكونات الجبهة الداخلية على التعافي، ومدة التعافي التي من المتوقع أن تمتد أعواماً. هذا الأمر له آثار صعبة في القدرة الإسرائيلية على الصمود، وخصوصاً في ظل الخلافات السياسية المرهقة التي تتصاعد في نطاقها ومظاهرها. ملخص وتوصيات
بعد مرور ثمانية أشهر على الحرب في قطاع غزة، وبالتوازي مع استمرار حرب الاستنزاف المحدودة التي يخوضها حزب الله، يتصاعد الخطاب العام في إسرائيل، الذي يتمحور حول الحاجة إلى إيجاد حل عسكري للتعامل مع التحدي الاستراتيجي المتمثل في حزب الله، وإعادة الأمور إلى نصابها في بلدات الشمال. إن أيّ قرار يُتخذ بشأن التصعيد مع حزب الله، يجب أن يأخذ في الاعتبار هذه التساؤلات: متى، وفي أيّ ظروف، وإذا كان من الممكن أساساً القيام بتصعيد ضد الحزب، وكذلك يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار مسألة الحرب المتعددة الجبهات ضد وكلاء إيران في المنطقة، والخسائر المتوقعة، والأضرار التي ستصيب الجبهة الداخلية في المديَين القصير والطويل. ومن ضمن الاعتبارات المتعلقة بكيفية تصرُّف إسرائيل بطريقة ملائمة في مواجهة تهديد الحزب، هناك أهمية خاصة لإجراء تقييم مستنير لعواقب الضرر الذي يلحق بالصمود الاجتماعي الإسرائيلي، وبصورة خاصة بعد مرور أشهر طويلة ومرهقة من الحرب في غزة، ولا سيما في ضوء تعاظُم المخاطر المتوقعة من سيناريو الحرب مع حزب الله.
على هذه الخلفية، وفي ضوء التحديات المتوقعة التي تعترض الجبهة الداخلية والصمود الوطني، نقترح ما يلي:
أيّ قرار يتم اتخاذه في إسرائيل بشأن شن حرب في الشمال، يجب أن يؤخذ في الاعتبار أيضاً المناخ العام السائد حالياً في إسرائيل، والنقاش العام والسياسي المليء بالكراهية، بما يتعلق بالحرب في غزة وهدفها، وكذلك مسألة التراجع الواضح في الصمود الاجتماعي. من الضروري أيضاً مراعاة الرأي العام الإسرائيلي، ودرجة الموافقة العامة على مثل هذه الحرب وأهدافها. ما دامت الحرب مستمرة في قطاع غزة، ننصح بأن تتجنب إسرائيل الانجرار إلى حرب متعددة الجبهات، ومن المناسب النظر في التوقيت الملائم لإسرائيل، إذا اختارت فعلاً القيام بمثل هذه المخاطرة. وطبعاً، إذا قام حزب الله بشن الحرب، أو تسبب بالتصعيد بشكل واضح، فعلى إسرائيل الرد بشكل مناسب لطبيعة التهديد وعواقبه.
كسيناريو بديل: وقف إطلاق نار طويل الأمد في قطاع غزة، وإطلاق سراح المخطوفين، والبحث في مسألة التسوية الإقليمية، وفقاً لخطة بايدن، أمور كلها قد تتيح وقف إطلاق النار في الشمال وفرصة لاستنفاد التسوية السياسية هناك، بوساطة دولية.
إذا اندلعت حرب شاملة ضد حزب الله، فمن الأفضل لإسرائيل أن تخوضها وتصممها، بحيث تكون قصيرة ومحدودة إقليمياً، بقدر الإمكان، على أمل أن تتسبب بأقل قدر من الضرر المادي والمعنوي بالجبهة الداخلية الإسرائيلية.
في مواجهة المخاطر العالية للسيناريو الذي في قيد المناقشة، من المتوقع من مختلف المؤسسات والمنظومات المسؤولة عن أداء الجبهة الداخلية في مثل هذه الحرب القيام فوراً بأفضل استعداداتها، وسدّ الثغرات القائمة بأسرع وقت ممكن.
في أي حال، هناك حاجة إلى إشراك الجمهور فيما يتعلق بأهداف الحرب، وكذلك المخاطر التي تنتظرهم، والاستعدادات اللازمة لمثل هذه الحرب، وتنسيق التوقعات معهم. وحتى الآن، لم يتم اتخاذ أيّ خطوات في اتجاه إعداد الجمهور لهذا السيناريو.