أسرار شبارو
تخرجت سهام من إحدى جامعات لبنان حاملة شهادة في الصحافة التي حلمت بها منذ صغرها، ف هي تعشق الكتابة، وترى في هذه المهنة رسالة سامية لنقل الحقيقة وإيصال وجع الناس، لكن سرعان ما تحطمت أحلامها على صخرة الواقع، فما إن طرقت باب هذا العالم حتى صدمت بتعرضها للتحرش.
كانت الفتاة العشرينية تبحث عن فرصة عمل، وإذ بصديقتها تطلعها عن حاجة موقع إلكتروني محلي لموظفين. لم تتردد سهام في إرسال سيرتها الذاتية عبر البريد الإلكتروني، وانتظرت بفارغ الصبر رداً.
وبعد فترة، تلقت اتصالاً يدعوها لإجراء مقابلة مع مدير الموقع. كانت سعيدة للغاية بهذه الفرصة، وبدأت تستعد للمقابلة بكل حماس.
حضّرت سهام جميع الأسئلة التي توقعت أن تُطرح عليها، وارتدت ملابس مناسبة للمقابلة وتوجهت إلى مقر الموقع وهي تشعر بالتوتر والقلق، لكنها كانت مصممة على إثبات نفسها والحصول على الوظيفة.
عندما دخلت إلى مكتب المدير، بدأت تشعر بالارتباك من نظراته وأسئلته الخاصة التي كانت بعيدة كل البعد عن المهنية. وعلى الرغم من ذلك، حافظت على رباطة جأشها، لكن عندما انتهت المقابلة وقف المدير ليصافحها، ولم يكتف بذلك كما تقول لموقع “الحرة”، بل “قام بلمس جسدها بطريقة غير أخلاقية”، فشعرت بالصدمة وسارعت مغادرةً المكان.
خرجت سهام من مكتب المدير وهي في حالة من الذهول، تعصف بداخلها مشاعر الغضب والاشمئزاز من تصرفه الشنيع، وتشدد: “اتخذت قراراً بعدم العمل في هذا الموقع، حتى لو تم قبولي، إيماناً مني بمبادئي وبأن شرفي لا يقبل المساومة”.
وبعد أسبوع، تلقت سهام اتصالاً من الموقع، يخبرها بقبولها في الوظيفة، فاعتذرت دون تردد، مؤكدة على موقفها الرافض للعمل في بيئة تسيء معاملة النساء.
“أصبح التحرش الجنسي أمراً طبيعياً في مجال الصحافة في لبنان وجزء لا يتجزأ من قطاع الإعلام، وغالبا ما يبدأ حتى قبل مرحلة التوظيف”، بحسب ما توصلت إليه دراسة أجرتها مؤسسة “سمير قصير”، التي سلطت الضور على “الرحلة الصعبة التي تمر بها الصحفيات”.
مشهد “صاعق”
سلّطت الدراسة التي ارتكزت على 70 مقابلة مع صحفيات يعملن و/أو يغطين أحداث لبنان، الضوء على التحديات التي لا تقتصر على متطلبات متحيزة ضدهن، تفرض الامتثال لمعايير محددة ترتبط بالمظهر الخارجي، مثل معايير الجاذبية والرشاقة والشعر المصفف، بل إن التكلفة الحقيقية التي تدفعها المرأة مقابل ممارسة مهنة الصحافة تشمل “القبول بظاهرة التحرّش الجنسي على يد مسؤولي التوظيف والمدراء والزملاء، واعتبارها جزءاً طبيعياً من العمل داخل المؤسسات الإعلامية”.
كما سلطت الضوء على حقوق العمل الخاصة بالصحفيات، مثل الروا تب والترقيات والإجازات والمنع من المناصب القيادية، والاستغلال في العمل دون إجازات، واستخدام النفوذ الذكوري للحد من مقدرتهن على العمل، حيث كشفت عن تكلفة كارثية لممارسة النساء لهذه المهنة.
نتائج الدراسة كانت “صاعقة”، كما تقول معدتها الباحثة ومسؤولة البرامج في مؤسسة “سمير قصير”، نادين مبارك، مضيفة: “كنا نهدف إلى كشف واقع الصحفيات في لبنان من أجل تبيان الفوارق الجندرية التي ظهرت أنها أضخم بكثير مما كنا نتوقع، لكننا اكتشفنا كذلك أن حجم المعاناة التي يعانينها صادمة جداً، وهي تتجاوز النواحي المهنية لتشمل النواحي النفسية والاجتماعية كذلك”.
“الصادم الأكبر” بحسب ما تقوله مبارك هو أن “90 بالمئة من المشاركات كشفن عن تعرضهن لشكل من أشكال المضايقة في عملهن الصحفي، و70 بالمئة منهن تعرضن للتحرش الجنسي، فيما أكدت 96 بالمئة ممن لم يتعرضن للتحرش أن زميلات لهن تعرضن لذلك”.
وبالإضافة إلى التحرش الجنسي، أبلغ 59 بالمئة عن تعرضهن لإساءة لفظية، و49 بالمئة لخطاب الكراهية، و43 بالمئة للتهديدات، و30 بالمئة للإيذاء الجسدي، و19 بالمئة للتنمر والتحرش عبر الإنترنت.
مراحل التحرش
تتعرض الصحفيات للتحرش قبل التوظيف، وخلاله، وبعده. وفي مرحلة ما قبل التو ظيف، روت مجموعة كبيرة من المشاركات أنه “طُلب منهن خدمات جنسية مقابل فرصة عمل، وشمل من طلبوا هذه الأمور، شخصيات سياسية أو مدراء.
وتتضمن أسباب التحرش قبل التوظيف، كما تقول مبارك “إساءة استخدام السلطة، وانعدام المساءلة، وثقافة الذكورية، إضافة إلى قبول صحفيات أخريات للعروض الجنسية واعتبارهن هذه الظاهرة جزءاً من العمل الصحفي”.
أما خلال مرحلة التوظيف، فأكدت 51 بالمئة من الصحفيات المشاركات بالاستطلاع، أن “المدير كان المتحرش الجنسي الرئيسي، و37 بالمئة أكدن أنه أحد الزملاء”. وتصبح الصحفية هدفاً للتحرش الجنسي بشكل خاص “عندما تكتب عن الصحة الإنجابية والجنسية، حيث يفترض المتحرشون أنها ستكون منفتحة”.
إلى جانب ذلك، تقوم صحفيات بتغيير مظهرهن للوقاية من التحرش الجنسي، كثيرات منهن يتصرفن بحذر بعد تجارب التحرش خوفاً من وقوع المزيد من الحوادث التي قد تؤثر على مسار حياتهن المهنية. ويضاعف صغر سن الصحفيات من خطر تعرضهن للتحرش.
وفي مرحلة ما بعد التوظيف، أفادت صحفية بأن “وزيراً طلب لقاء معها بعد استقالتها من منصبها الصحفي، وإذ بها تصدم بأن هدفه من ذلك كان التحرش بها جنسياً”.
وتضيف: “تلك العوامل قد تشمل التمييز بين الجنسين وغياب القوانين الصارمة لمكافحة التحرش وعدم تطبيقها بشكل فعّال، مما يجعل المتحرش يشعر بالإفلات من العقاب ويتجرأ على مضايقة زميلاته من دون محاسبة”.
وحول قضية التحرش بالصحفيات في أماكن العمل، يعلّق نقيب المحررين، جوزف القصيفي، بالقول: “من الطبيعي أن يتعرضن لذلك كما يتعرض عدد كبير من اللبنانيات وغير اللبنانيات في كل أنحاء العالم إلى حوادث في عملهن، ومنها محاولات التحرش سواء من مسؤولين في العمل أو زملاء أو سياسيين أو ضيوف يجرين معهم مقابلات لكتابة تقرير أو تحقيق”.
ولا تنتهي عواقب التحرش الجنسي بانتهاء العمل، بل غالباً ما تستمر لفترة طويلة بعد ذلك، وتشمل هذه العواقب كما أظهرت الدراسة “تراجع احترام الذات والثقة بالنفس (81%)، وعرقلة النمو الوظيفي والعمل (64%)، والخوف والقلق والعزلة والاكتئاب (73%)، والشعور بالذنب وعدم الأمن والفشل (49%)، إلى جانب الرقابة الذاتية واضطراب الطعام ومعاداة المجتمع والعدوانية (19%)“.
“سيطرة ذكورية وحقوق مهدورة”
من أعراض التمييز الدائمة في قطاع الإعلام اللبناني، “تنصيب الرجال كصانعي قرار”، بحسب ما توصلت إليه الدراسة، حيث أقرت 73 بالمئة من المشاركات، بأن الصحفيات يواجهن “عقبات” في الوصول إلى مناصب قيادية. ولفت عدد من المشاركات إلى غياب المرأة عن مثل هذ ه الأدوار، “بغض النظر عما إذا كان مسؤول التوظيف رجلاً أم امرأة”.
كما ظهر أن “العبارات المستخفة” بالمرأة لا تصدر فقط، كما تقول مبارك، “من الرجال الذين يشغلون مناصب سلطة فحسب، بل تعمل النساء في مناصب السلطة”.
وعلى الرغم من تجاوز بعض العقبات في بيئة العمل الإعلامية الرقمية والحديثة، “لا تزال وسائل الإعلام التقليدية متخلفة عن الركب. وحتى عندما تتولى امرأة منصباً قيادياً فإن سلطتها غالباً ما تكون مرتبطة بصاحب الوسيلة الإعلامية أو مؤسسها الذي عادة ما يكون رجلاً، كأن تكون زوجته أو ابنته أو أخته أو صديقته”، وفق الدراسة.
و”في وقت تواجه فيه المرأة في كثير من الأحيان توقعات ترغمها على إعطاء الأولوية لمظهرها، حيث لا يزال شرط الجمال أساسيا للنساء المتقدمات للوظائف، يتم تقدير الرجل لقدراته الذهنية”، وفقاً لما ورد في الدراسة، “فتؤدي هذه الديناميكية إلى الحكم على النساء بناء على صفاتهن الجسدية في المقام الأول، في حين يقدر الرجال لسلطتهم وتفوقهم الفكري”.
كما تواجه الصحفيات تحديات كثيرة في مكان العمل، تشمل التفاوت في الأجور والعراقيل أمام الترقية. وتشير الدراسة إلى أنه “لا تلقى حقوق الصحفيات اعترافاً وصوناً ما لم يدافعن عنها باستمرار، ويثابرن على المطالبة بها والنضال بقوة”.
وما زال القائمون على التوظيف ينظرون إلى المرأة على أنها “أقل حاجة إلى المال مقارنة بالرجل”، مما يؤدي حكماً إلى حصول الرجل على راتب أعلى من راتب المرأة.
ووفقاً للدراسة، ظهر أن 73 بالمئة من الصحفيات يواجهن عقبات في الوصول إلى مناصب قيادية، بينما لم يحصل 64 بالمئة منهن على زيادة في الراتب أو ترقية خلال السنوات الخمس الماضية”.
الحرة