عندما تحزم حقيبة سفرك في رحلة سياحية تكون قد اتّخذت قرارا بأن تستمتع، ولذلك تختار مكانًا تتوق إلى رؤيته واستكشافه والتعرف على معالمه وثقافته ونبض الحياة فيه!
الى لندن كانت الرحلة، وتحديدًا الى الريف الانجليزي الذي كنتُ كلما زرت العاصم البريطانية، اسمع كثيرين يقولون لي وأنا اتحدث عن روعة لندن، أنّ “الريف الانجليزي” أكثر روعة.
وعليه، قررت أن أتوجه الى هذا الريف الذي قيل لي إنّه يضم أجمل القرى والآثار، ويحتل مكانة خاصة في قلب ثقافة البلاد، وهو يعتبر الأجمل في العالم، كواحة من الخضرة والغابات والمحميات والقرى الجميلة التي تتباهى بتراثها وهندسة بيوتها الصغيرة المبنية من الحجر، والمزينة بالزهور، والمسورة بالأشجار.
المحطة الأولى كانت مدينة St Albans حيث تقع في جنوب غربها اكبر مدينة رومانية بريطانية واقدمها. في متحف “verulamium” الذي تتعرف فيه ليس فقط على آثار وكنوز رومانية بل على الحياة كلها في تلك الحقبة : من الادوات التي كانوا يستعملونها للزراعة الى منتجاتهم الزراعية وطريقة عيشهم وبيوتهم واماكن عملهم وعملتهم ومدافنهم وأرقى الفسيفساء كما يسمونها من خارج البحر المتوسط. بين جدران ذلك المتحف تشعر وكأنك عدت بالزمن الى تلك المرحلة التي يقال انها تعود الى العام ١٨٠ م.
ومن المتحف توجهنا الى المسرح الروماني الذي كانت تجري فيه تحضيرات لعرض، وبعده الى مكان يستقبلك ببوابته الحديدية الضخمة المفتوحة على مصراعيها لتكشف لك عن أخضر كأنّه ممتد أفقيًا الى ما لا نهاية ويعانق السماء عاموديا. اعتقدت اننا في مكان على غرار “هايد بارك” Hyde Park لندن، لكن المفاجأة كانت بأنه مدفن للحيوانات: بلاطات تحمل اسماءها وادعية بالسلام لارواحها، وورود وشموع وبخور وزوار!
فجأة حضرت في ذهني مشاهد تسميم الكلاب في بلدنا وكل شرور وطننا. بدهشة رحت انظر الى قبور الحيوانات أنا الآتية من بلد بات مسلخًا للانسان، بلد يطلق الرصاص في أتفه المناسبات فيقتل اطفالًا وشبابًا، بلد لم تعد قبوره تتّسع للجثث، بلد فيه حتى الآن آلاف المفقودين ولا احد يعرف ان كانوا لا يزالون على قيد الحياة ام قتلوا او أين دفنوا، وما من مسؤول يهتم لمصيرهم، بلد يُذل مواطنوه عند كل اشراقة شمس، تعرضوا لأكبر انفجار غير نووي في العالم، وفقدوا أحبة بالمئات، والعدالة ممنوعة في قضيتهم. انا الآتية من بلد نُكل بشعبه وتعرض لاكبر عملية احتيال وسرقة من سلطته السياسية ومرمي في بؤس المصير.
تشعر بالضآلة أمام هذا المشهد! تنسى أنّك في رحلة للإستجمام وتعود من حيث أتيت!
هنا في بريطانيا الحياة مقدسة والموت ايضا، للانسان وللحيوان. هو الاحترام للروح أكانت لإنسان ام لحيوان. ثقافة الديمقراطية والانفتاح على الآخر واحترامه تعلمك التسامح وتغرس فيك المحبة. هي الانظمة السياسية المسؤولة عن هذه البنى الثقافية، ففي بريطانيا التي استطاع حزب المحافظين فيها ان يأتي ب “ريشي سوناك” رئيسًا للوزراء دون الاخذ بعين الاعتبار اصوله الهندية، في حين اننا في لبنان اذا التقى احد منا بآخر يمطره بجملة اسئلة لكي يتمكن من خلالها الاستدلال إلى هويته وطائفته وانتمائه الحزبي.
في لبنان، ومنذ نهاية عهد الرئيس السابق ميشال عون والقوى السياسية مختلفة على مواصفات الرئيس، ولونه وجنسه وانتماءه.إنّهم يختلفون على كل شيء، يؤلبون جماهيرهم على بعضها البعض حتى باتت الجمهورية عبارة عن جمهورية حقد وحاقدين. مجموعات لا تضمر سوى الشر لبعضها البعض، والآخر الذي لا يختلف عنك بشيء، ليس سوى عدو يجب اما اخضاعه او التخلص منه.
في الواقع نحن لسنا بحاجة لانجاز الاستحقاق الرئاسي كي تستقيم احوال البلاد، نحن بحاجة إلى اعادة تأهيل على كل المستويات بعدما سممت السياسة واربابها حياتنا، وبعدما ضرب الانهيار كل شيء لا سيما القيم والاخلاقيات والانسانية، وبعدما باتت ثقافة الالغاء وثقافة الموت تحاول احتلال المجال العام والقضاء على كل اختلاف وتنوع. بتنا بحاجة للتغيير قبل ان ينفجر بنا هذا الكيان.
نحن لا نطلب تشييد مقابر على غرار مقابر لندن للحيوانات لكننا نطلب نظاما او أقله اداءاً من الطبقة الحاكمة يشعر المواطن انه يعيش بكرامة ويموت بكرامة كما تعيش وتموت الحيوانات في البلدان المتطورة.