ما إن تطوي محافظة درعا السورية “حدثا أمني ا” يضرب إحدى مناطقها في جنوبي البلاد حتى تدخل في آخر يتشابه بالسيناريوهات ويختلف بالحدّة.
ورغم أنها خضعت بالكامل لسيطرة النظام السوري في 2018، إلا أن ذلك لم يكن كفيلا بجعلها “آمنة وهادئة”، وعلى العكس دخلت في “متاهة أمنية” لا يعرف السكان مخرجا لها هناك.
ومنذ خمس سنوات يتّبع النظام السوري “سياسة التسويات” في المحافظة الجنوبية الحدودية مع الأردن، وكان قد استنسخها لأكثر من مرة في أحياء المدينة والريفين الشرقي والغربي، آخرها في مطلع يونيو الماضي.
وفي مقابل ذلك يتبع أيضا وبالتوازي “سياسة أمنية” تعتمد على تنفيذ مداهمات وعمليات اقتحام، ويتم تطبيقها منذ ثلاثة أيام على مساحات واسعة من مناطق الريف الغربي لدرعا، أبرزها المزارع المحيطة بمدينة طفس، حسب ما يقول ناشطون لموقع “الحرة” وشبكات محلية.
وتأتي الحملة الأمنية التي تستهدف مدينة طفس ومحيطها في الوقت الحالي، بعدما أعلنت وزارة الداخلية السورية مقتل 4 عناصر من قوى الأمن الداخلي بـ”كمين غادر” أمام مركز امتحاني، في الخامس والعشرين من يونيو الماضي.
واتهمت “الداخلية السورية” “إرهابيين” بالوقوف وراء الكمين المسلح، فيما لم تتبن أي جهة مسؤوليتها عن ذلك، كما هو الحال بالنسبة لحوادث القتل المباشر الت ي وثقتها شبكات حقوقية سورية من بينها “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، على مدى السنوات الخمس الماضية.
وكان “المرصد” قد أفاد، في الرابع من يوليو الحالي، بوقوع 8 حوادث أمنية في درعا راح ضحيتها 5 أشخاص في أقل من 72 ساعة، ما يشير إلى “حالة من الفلتان الأمني تسود المنطقة”.
وبذلك، فقد بلغت حصيلة الاستهدافات في المحافظة، منذ مطلع شهر يناير، وفقا لتوثيقات المرصد السوري 269 حادثة فلتان أمني، جرت جميعها بطرق وأساليب مختلفة، وتسببت بمقتل 206 أشخاص.
وتشمل حصيلة القتلى “مدنيين بينهم نساء وأطفال، ومتهمين بترويج المخدرات، وعناصر من قوات النظام والأجهزة الأمنية التابعة لها والمتعاونين معها، ومقاتلين سابقين ممن أجروا تسويات ولم ينضموا لأي جهة عسكرية بعدها”.
بالإضافة إلى “عناصر من تنظيم داعش، ومقاتلين سابقين أجروا تسويات وانضموا لأجهزة النظام الأمنية، وعاملين لصالح حزب الله اللبناني، ومتعاونين مع الميليشيات الإيرانية، ومقاتلين سابقين في جبهة النصرة”.
لماذا يتجنّب النظام الحسم؟ ويشابه ما تتعرض له مدينة طفس في الوقت الحالي الكثير من الحملات السابقة التي استهدفت المدينة بالتحديد لأكثر من مرة، ومناطق ومدن أخرى في درعا السورية، دون أن تغيّر من واقع الأرض شيئا.
وكثيرا ما جاءت الحملات بعد إقدام أجهزة النظام السوري على تنفيذ “عمليات التسوية”، والتي تستهدف “المطلوبين للأجهزة الأمنية، والمتخلّفين عن الخدمة العسكرية والمنشقين”.
من جانب النظام السوري نقلت صحيفة “الوطن” شبه الرسمية، يوم الأربعاء، عن أمين فرع درعا لـ”حزب البعث”، حسين الرفاعي قوله إنّ “الدولة حاليا تعمل بقوة على تنظيف المحافظة من الإرهابيين الذين ينفذون جرائم القتل والاغتيالات”.
وأوضح أن “ذلك يتم عبر عمليات نوعية أمنية وليس من خلال عمل عسكري، لأن العمل العسكري أصبح خلفنا”، حسب تعبيره.
وأشار المسؤول الحزبي إلى أن “المستهدفين في العملية الأمنية في طفس هم الذين رفضوا إجراء التسوية”، مضيفا أنّ “العملية جاءت عقب إجراء تسوية لـ26300 شخص، منهم من “التحق بالجيش العربي السوري، ومنهم من يريد السفر إلى الخارج، ومنهم من انخرط في سوق العمل”، وفق وصفه.
ويشكك ناشطون حقوقيون في مساعي النظام لفرض “الأمن” من خلال التسويات في الجنوب السوري، كونه ما يزال يواصل عمليات الاعتقال والتهديد باستخدام القوّة.
ويعتقدون أن مشهد “الحملات الأمنية” والسيناريو المتكرر لها من جانب النظام السوري يرتبط بـ”اعتبارين”، كما يقول الناشط الحقوقي، عمر الحريري.
ولا يتوقع الحريري في حديثه لموقع “الحرة” أن “النظام السوري عاجز عن الاقتحام كونه يتعرض لمواجهة كبيرة من الفصائل المحلية على الأرض”.
ويظن أن “النظام السوري ولو أراد أن يقتحم بقوة كبيرة وباستخدام الطيران لفعل ذلك”، لكن “القصة معقدة ويحكمها اعتباران”، الأول هو أن “النظام لا توجد لديه الرغبة الحاسمة بإنهاء أي وجود مسلح في الريف الغربي”، على عكس ما حصل في درعا البلد ومنطقة “طريق السد”.
“من غير الواضح لماذا يتجنب النظام الحسم في الريف الغربي، لكن من المؤكد أنه غير منزعج من الفوضى وعمليات النهب والاغتيالات”.
ويضيف الناشط الحقوقي: “قواته تتدخل فقط عندما يحدث شيء كبير، كما حصل بالنسبة لعناصر قوى الأمن الداخلي أمام المركز الامتحاني”.
من جانبه يرى العقيد المنشق عن الجيش السوري، إسماعيل أيوب أن “الجنوب بالكامل خاضع لسيطرة النظام السوري”، و”هناك تعهدات من قبل الروس ودول الجوار بأن لا يكون هناك أي تصعيد بالقوة العسكرية من دبابات وطيران وما إلى ذلك”.
ويقول أيوب لموقع “الحرة” إن “معظم العمليات التي تشهدها المحافظة من قتل وخطف تحمل في جميعها بصمات أمنية وتقوم بها أجهزة مخابرات”، معتبرا أن “النظام ينكر الحديث عن ذلك لكنه يعمد على تصفية كل المعارضين في الجنوب بهدوء”.
طبيعة الولاء وكان اتفاق “التسوية” الخاص بدرعا في 2018 قد أتاح للنظام السوري وروسيا فرض السيطرة الكاملة على المحافظة.
وأتاحت بنوده لمن يرغب من مقاتلي المعارضة الخروج إلى الشمال السوري، عبر حافلات تكرر دخولها قبل خمس سنوات إلى الكثير من المناطق المشتعلة ضد الأسد، مثل ريف حمص والغوطة الشرقية.
ومع ذلك وبينما رفض العديد من المقاتلين المعارضين الخروج من الشمال اتجهوا إلى الانخراط في “عمليات التسوية والمصالحة”، ومن ثم للعمل لصالح الأجهزة الأمنية للنظام السوري وضمن جيشه.
وما سبق كان حاضرا في درعا، إذ انقسم الكثير من مقاتلي المعارضة ضمن تشكيلات الجيش السوري، وضمن فصائل تعرف بولائها للأجهزة الأمنية.
ويوضح الناشط الحقوقي الحريري أن “الكثير من أبناء الريف الغربي هم عناصر لدى النظام، سواء في الفرقة الرابعة أو أجهزته الأمنية”.
ويعتقد أن “النظام السوري يعرف بأنه مؤتمن على ولاء هؤلاء المقاتلين وأنهم انضموا إليه من أجل حماية أنفسهم فقط”.
ولذلك فإن “أي هجوم كبير على المنطقة التي يتواجدون فيها من الممكن أن يولد أحداث معاكسا ضده”، وفق الحريري، وهو الاعتبار الثاني لحملات النظام الأمنية في درعا.
ويشير العقيد السابق إسماعيل أيوب إلى أن “النظام السوري لديه القدرة على ضرب أي منطقة كونه المسيطر وله اليد الأقوى”، وأن “ما تبقى من فلول الفصائل المسلحة ليس لديهم أي شوكة ويقضون معظم أوقاتهم في الفرار”.
ويرى أيوب أن حالة “الفوضى تصب في صالح النظام السوري”، وأن الأخير “ولو أراد تحقيق المصالحة بكامل تفاصيلها لفعل لكنه يرغب بأن يبقى الوضع على حاله”.
“ذرائع” وتتميز محافظة درعا بوضع خاص يميزها عن باقي المناطق السورية التي دخلت في “اتفاقيات التسوية”، من حيث طبيعة القوى العسكرية المسيطرة على قراها وبلداتها، وأيضا طبيعة المقاتلين.
وهؤلاء المقاتلون ينقسمون ما بين تشكيلات أنشئت حديثا كـ”اللواء الثامن” التابع لـ”الفيلق الخامس”، وأخرى “أصيلة” في المنظومة العسكرية للنظام السوري، كـ”الفرقة الرابعة” و”الأمن العسكري” و”المخابرات الجوية”.
وألقى هذا التنوع في القوى المسيطرة بظلاله على الأرض، لتتشكل مناطق نفوذ مقسّمة داخل منطقة النفوذ المعروفة إعلاميا على أنها تخضع بكاملها لسيطرة النظام وحلفائه الروس والإيرانيين.
وبعد 12 عاما من الحرب بات الجنوب السوري أبرز “البقع الجغرافية المعقدة” في الخريطة السورية.
وكان قد تردد ذكره كثيرا خلال الفترة الأخيرة، ولاسيما عندما اتجه الأردن للإعلان بشكل متواتر عن ضبط عمليات تهريب مخدرات وأسلحة، انطلاقا منه.
ويعتبر المحامي السوري، سليمان القرفان أن “النظام السوري يحاول أن يسم محافظة درعا بالإرهاب”، ولذلك “يختلق ذرائع بأنه ما زال فيها متطرفون، وأنه يجب القضاء عليهم أو تهجيرهم”.
وما يحدث في طفس الآن “يصب في هذا الشأن”.
ويقول القرفان لموقع “الحرة” إن “المتابع للأحداث بالجنوب يجد أن الأجهزة الأمنية هي من تحرك من كانوا ينتمون لتنظيم داعش الإرهابي، والذين ألقت فصائل الجيش الحر القبض عليهم وتسليمهم في منتصف عام 2018”.
“بعد سيطرة النظام على المحافظة تفاجأ الجميع بأن هؤلاء هم من تم الإفراج عنهم بعد أن تم تجنيدهم لصالح قوات الأسد، وليكونوا ذراعا له يقفون وراء اغتيال الشخصيات الثورية في المحافظة، الرافضة للتسويات والمصالحة”.
ويضيف القرفان أن “الكثيرين من أبناء المحافظة باتوا يعتقدون أن السياسات الأمنية التي يلجأ إليها النظام غالبا ما تتزامن مع مواسم الحصاد”.
وما سبق “ولد قناعة لدى الكثيرين أنه يهدف إلى حرمان المزارعين ومعاقبتهم من محاصيلهم، والتي غالبا ما تتعرض للحرق جراء التحشيدات العسكرية” ، حسب تعبير ذات المتحدث.
الحرة