حتى في أسوأ اللحظات وأدق المفاصل وأخطر المراحل، تجد فئة من السياسيين الذين يصنّفون أنفسهم في خانة “الأقوياء”، يصرّون على رسم الإبتسامات على شفاههم، من دون أن ينسوا، بين الفترة والفترة، إطلاق واحدة من ضحكاتهم التي تتجاور مع الشتم والصراخ. ما هو سر هذا السلوك المقلق والغامض عند هؤلاء السياسيين والقادة حول العالم؟
لقد كان بارزًا أنّ هذه الظاهرة لم تفت علم النفس فقام بـ “فكّ شيفرة” الضحك “المقلق”، من خلال مقارنته مع تلك السمات التي يتقاسمها مع “أنسبائه” في سلالة القردة. وقد بدا جليّا أن القرود، دون غيرهم من الحيوانات، تتشارك والجنس البشري “آليات الضحك” التي تستدعي مجموعة محدّدة من عضلات الوجه.
ويتميّز البشر والقردة بنوعين أساسيين من التعابير، وهما وفق علم النفس:
١- الابتسامة المريحة أو الجامعة، والتي تنمّ عن ضحك حقيقي صادق يثير البهجة وتجعل الشخص مشعًا مضيئًا برّاقًا ودودًا، يزرع صاحبها شعورًا بالمتعة والمرح أينما حلّ، وتكون مفتاحًا للعلاقات الاجتماعية كما تساعد على التآلف والتكاتف وعلى الخروج من اليأس والركود، وتساهم في إضفاء شعور بالانتماء، وهذا النوع من الضحك يستخدمه الأشخاص، كع نصر أساسي في المواقف التي تتطلب إظهار صمود وتحدٍ. ومن مميزات هذه الابتسامة أنها تجعل الفم مسترخيًا وتساهم في إبراز الأسنان السفلية بشكل طفيف وظهور التجاعيد في محيط العينين.
٢- الابتسامة التهديدية أو المفرّقة، وتسمّى بالعامية “الكشرة”، ومن صفاتها، بروز الأسنان وارتفاع الشفّة العليا.
وبحسب علم النفس فهذه الابتسامة تأتي بسبب التوتر أو تستخدم للسخرية والتهكّم، ويتم استخدامها في التعبير عن المواقف السلطوية المزيّفة والمصطنعة كأداة للتخويف وسحق الآخرين، فتزيد من الشروخ والعدائية بين الأفراد، لتتحوّل إلى أداة ترهيبية يحاول حاملها إقصاء كل من يقف في طريقه.
يقول برونو هامبيك، أستاذ علم النفس التربوي وصاحب منشورات عدة حول العنف المدرسي والعائلي، “إن النوع الثاني من الابتسامات هو الأكثر استخدامًا لدى أصحاب السلطة”.
ووفقًا لأستاذة العلوم السياسية في جامعة برينستون كارين ستينر، فإنّ الفكاهة لدى أصحاب الابتسامة التهديدية تتغذّى من الشعبوية والهيمنة، إذ يحاولون من خلال الأولى (الشعبوية)، العمل على توحيد أنصارهم ودمجهم في المجتمع، أما الثانية (الهيمنة)، فيلجؤون إليها بمجرد شعورهم بالخطر، ويستخدمونها كحصن لسحق الخصم، ويرفضون أي شكل من أشكال التوازن بينهم وبين القوى المتواجدة على الأرض أو البحث عن حلول وسطية لإرضائهم”.
وتقول ستينر إنّ لسلوك أصحابها خمس خصائص مشتركة في ما بينهم هي:
٠ إظهار العضلات
٠ التعامل بالسخرية الخفيفة
٠ جذب الانتباه بأي ثمن
٠ ممارسة الذكورية تحت غطاء المزاح
٠ نزع الشرعية عن “النظام” السياسي القائم
وتقول ستينر، إن هؤلاء بهزليتهم يحاولون الانقضاض على السلطة باستخدامهم عاملين هما:
الضوضاء من خلال الضحكة العدوانية العالية والصراخ
والاستفزاز من خلال التكشيرة المليئة بالكراهية والتي تخفي خلف “فكاهتهم المدمّرة” البعد الحقيقي لطروحاتهم اللا إنسانية.
قد نجد ربما في سلوك فيكتور أوربان في المجر، أو فلاديمير بوتين في روسيا أو كيم جونغ أون في كوريا الشمالية أو بشار الأسد في سوريا أو بعض قادة الأحزاب في لبنان الكثير من الخصائص الخمس التي ذكرتها ستينر، إلا أنه قد لا يخفي على أحد أنّ المرشّح الحالي للانتخابات الأميركية دونالد ترامب يتمتّع بالعديد من هذه الخصائص.
ويعدّد راؤول جيرار دي في كتابه “الخرافات والأساطير السياسية” أربعة عناصر يمكن أن يستند إليها السلطويون لإيهام مؤيديهم بممارساتهم الديمقراطية وتلعب جميعها على الوتر العاطفي وتحاول تعميم الخوف والغضب تحت غطاء الضحكة المزيّفة هي:
٠ التزعّم من خلال الهتافات المؤيدة
٠ اللعب على وتر النوستالجيا والاكثار من الوعود الذهبية كما يحدث حاليًا مع شعارات حملة ترامب الانتخابية ” لنعيد لأميركا عظمتها من جديد” أو هتافات “شيعة شيعة” لأنصار الثنائي الشيعي في لبن ان
٠ التمييز بين “هم” و”نحن” (لا نشبههم ولا يشبهوننا)، خطاب اليمين المتطرّف في لبنان والعالم.
وعليه، من المؤكد أنّ الضحك الذي يثيره هؤلاء السياسيون سواء كانوا ديكتاتوريين أو ديمقراطيين وغياب الجديّة يجعل منهم أشخاصًا خطيرين، فضحكتهم هذه لا يمكن أن تزرع السعادة، لأنها بالمحصّلة ليست سوى نتاج مسرحية هزلية تتغذّى من الفوضى، فيسعون تحت غطاء الفكاهة إلى الاستئثار والانقضاض على ما تبقى لشعوبهم من حرية.