"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

داود الصايغ / زمن الغضب والحساب

الرصد
الاثنين، 27 مارس 2023

داود الصايغ / زمن الغضب والحساب

بعض الأقلام تعبت. أصحابها استعملوا كلّ ذخيرتهم في وجه المسؤولين. فلم يعد في جعبتهم أيّ نعت جديد ينعتون به أولئك الذين أوصلوا #لبنان واللبنانيين إلى ما وصلوا إليه. فباتوا اليوم يوجّهون سهامهم إلى اللبنانيين أنفسهم ويحمّلونهم مسؤولية كل ما جرى ويجري مستشهدين بمحللين ومفكرين أجانب.

ولكن حين تكون الكتابة صوتاً صارخاً، وحين تكون الكلمة لصيقة بالإنسان منذ البدء، فلا يمكنها أن تخبو. فكلمة البدء الواردة في النص المقدس وهي “Logos” باليونانية وتعني العقل الإلهي، تصحّ أيضاً على كل مَن يتعامل مع الكلمة كأنها خارجة من ذاته. ولذلك ارتقى الكثيرون بالكلام. وبعضهم صنع التاريخ به.

وماذا بعد… ماذا بعد تحميل المسؤولية إلى اللبنانيين أنفسهم. أنتم سبب الخراب. أنتم منقسمون مشتّتو الولاءات. أنتم تجرون وراء زعمائكم وتدّعون الارتباط بالحضارة الغربية. فماذا بعد؟ قولوا لنا كيف نُصلح اللبنانيين أو نعيد تربيتهم من جديد. كيف نُنشئهم على كتاب تاريخ واحد وكتاب تربية واحدة. أو كيف نغيرهم ونحوّلهم إلى شعب متماسك متضامن يحاسب من ينتخبهم على الأقل. ماذا بعد، حين تفرغ الجعبة من شتم اللبنانيين بعد المسؤولين عنهم. الأقلام المحترمة تُعتبر مسؤولة. ليس فقط في التوصيف. فهذا أسهل الأمور، لأن الجالسين في المقاهي والمطاعم والبيوت والسهرات لا يفعلون سوى ذلك. ومن فرط الهمّ بات الناس أحياناً يوقفون شخصاً في الشارع يعتبرون أنه يعرف ويسألونه: ماذا سيحدث؟ وبعد الاتفاق السعودي - الإيراني قفز البعض إلى موضوع الرئاسة. لعلها فُتحت أمام فلان وأُقفِلت أمام غيره، وذلك من كثرة المراهنة على تلك الوصفة السحرية الملاصقة للتاريخ اللبناني، بحقٍ أو بغير حق، وهي “كلمة السر” التي تأتي من الخارج. هكذا هم اللبنانيون، منذ سنواتٍ وعقود وربما أجيال.

كان الجنرال شارل ديغول يمجّد فرنسا ويزدري الفرنسيين. وصفهم بالعجول (Des veaux). وهذا صحّ على بعضهم في سنوات الحرب العالمية الثانية، إذ لم يكن قليلاً عدد الذين انصاعوا إلى المارشال فيليب بيتان وتعاملوا مع الألمان. وهي فرنسا الأمة التي علمت الشعوب الثورات ورفدت الحضارة الإنسانية بأفضل ما فيها من فكرٍ وعلمٍ وفلسفةٍ وإبداعٍ وفنون. ولكن الفرنسيين منذ مدة غير قصيرة هم دائمو التذمّر ولا شيء يرضيهم أو يعجبهم ويملأون الشوارع يومياً بالإضرابات.

الألمان أنفسهم شعب “موزار” و”بيتهوفن” و”كانت” مشوا وراء أدولف هتلر الذي لا يزال له أتباع في ألمانيا وغيرها، في النزعات اليمينية المتطرفة التي اجتاحت إيطاليا وتجتاح اليوم السويد وتطلّ برأسها على سائر الدول الإسكندينافية وحتى فرنسا. الشعوب هل تحاسَب وكيف؟ هل أن الشعوب تقود نفسها؟ هنالك قادة. عندنا زعماء ومسؤولون لو سمعتهم في تصريحاتهم لما كان أحد مسؤولاً. المأساة اللبنانية أن ما من أحدٍ يعتبر نفسه مسؤولاً عمّا جرى، حتى عن الانهيار المالي وضياع الودائع. أتدرون لماذا؟ لأنه حتى الآن لم يحاسَب أحد. والقضاء اللبناني العريق انفجر من داخله من فرط السياسة التي تسللت إليه وتحكمت به.

ولكن هل صحيح أن الشعب مسؤول؟ هذا بحثٌ يقود إلى البدايات، إلى مبررات النشوء والتكوين، عندنا وعند غيرنا. إيطاليا يُقال عنها إنها أمة غير مكتملة “Une nation inachevée” وكذلك هي الولايات المتحدة. أما المملكة المتحدة فهي ليست فقط مناطق متحدة بل هي أمم متحدة تحت التاج وهي إنكلترا واسكوتلندا وبلاد الغال وإيرلندا الشمالية المجموعة تحت رمزية الملكية.

وما يُقال عن المملكة المتحدة يُقال عن بلجيكا أيضاً التي لم تعرف حتى الآن كيف يتحد شعباها الفلمنكيون والولونيون. ويُقال عن اسبانيا، والبلدان الثلاثة هذه ملكيات ما زال يصونها العرش برمزيته فقط. ويُقال حتى عن سويسرا في شقها الألماني ناحية برن وزوريخ حيث يصرّون هنالك على التكلم بالألمانية دون سواها.

فلماذا التركيز على مسؤولية اللبنانيين بهذا الشكل؟ إنهم ثاروا وانتفضوا. من عكار إلى صور مروراً بالمدن والأقضية كلها. وكانت ثورتهم رائعة. أسقطها بالطبع من ليس لهم مصلحة في أي تغيير، يعني في أي محاسبة بعد شعار “كلن يعني كلن”. والكل هؤلاء متحدون في ما بينهم. لا شيء يهزهم، وجلدهم أكثر سماكة من كل المآسي التي يُشاهدونها دون أن تكون لديهم القدرة سوى على الاجتماعات التي لا ينتج عنها أي شيء. فقط لو تسمعوا ما هي هموم بعضهم. همّهم هم فقط. وهذا أصبح شديد الوضوح.

ولكن يا أصحاب الأقلام أيها الكرام، أيها الأصدقاء قدموا حلولاً. على الأقل انتفضوا على ما جرى في السنوات الأخيرة في المبدأ المُعتمد على توزيع الحصص بين الشركاء – ليس شركاء الوطن – بل شركاء المكاسب. فالانهيار الأخلاقي سبق الانهيار المادي. تهالكت الدولة من داخلها بفعل سقوط القيم. فلا تبحثوا عن الحلول حيث هي مفقودة: لا في النصوص ولا في الصلاحيات ولا في الطائف ولا في المثالثة ولا في المؤتمر التأسيسي، ولا في إلغاء الطائفية، ولا بخاصة في حلولٍ هوجاء مثل الصيغة الفيديرالية أو التقسيم. هذه كلها أوهام وليس مكانها لبنان. لبنان يُصلَح بفريق حاكم صغير له قضية. وهذا حدث. حدث في أوقاتٍ متفاوتة وربما متباعدة. قضية استعادة الثقة. والثقة لا تستعاد سوى بمن هم أهل للثقة. وحتى الآن الثقة مفقودة بمن هم من المفترض أن يجسّدوها وجسّدوها في مراكز المسؤولية. إذ كيف يعقل في بلد من البلدان، حتى تلك المتخلفة، أن تتصاعد الاتهامات اليومية بالسرقة والفساد، مع تسمية الأمور بأسمائها، والمسؤولين عنها بأسمائهم، وما من أحدٍ يتحرك! والشاشات تتمادى والأقلام تقطر الشتائم. وليس هنالك حتى من اعتراضٍ واحد، أو من محاولة نفي أو تصحيح، أو من إحالة قلمٍ أو شاشة على القضاء، لأنه كلما اشتدّت الشتائم عليهم أمعنوا الغرق في كراسيهم.

أليس في لبنان عشرة أشخاص يتمتعون بالاستقامة والتجرد والكفاءة ليُنقذوا لبنان؟ بلى إنهم بالمئات. ولكن كيف يصلون؟ كان الصحافي الكبير رشدي معلوف يقول: يصل من يعرف أن يصل وليس من يجب أن يصل. هذا في الماضي، ماضي لبنان، فكيف بنا اليوم. فإذا أرسل كل زعيم مندوباً عنه بقينا مكاننا، لأن المبعوث إما هو قاصر وإما تابع يعمل لمصلحة مَن سمّاه في مختلف النواحي، وهذا ما حصل حتى الآن.

إذا كنتم أيها الأصدقاء تنتظرون الخارج، فانتظروا. اتفاق الطائف حصل بعد ستة عشر عاماً من الحروب الأهلية اللبنانية. ولم يتحرك أصحاب القرار الدولي إلا عندما التقت مصالحهم على ذلك. فالدول تتحرك على أساس المصالح. وعندما نزلت قوات “المارينز” الأميركية على شواطئ الأوزاعي في تموز 1958 بناء على طلب الرئيس كميل شمعون، إنما حصل ذلك لأن المصلحة الحيوية الأميركية كانت تقضي به، وبخاصة بسبب انقلاب العراق وسقوط الملكية ومجيء عبد الكريم قاسم يومذاك. اليوم لا مصلحة حيوية لأحد في لبنان. يبقى لنا الفاتيكان الذي نلجأ إليه كأكبر قوة معنوية في العالم، وبخاصة عندما يسقط البعض في هفواتهم الكلامية مثل الحديث المؤذي عن الأعداد فيحاولون تحميل الكرسي الرسولي أعباء كراسيهم في الحديث عن المسيحيين وضرورة حضورهم ودورهم، إذ لم يتجاوز أحد البابوات في حديثهم عن لبنان. إنه رسالة للغرب كما للشرق. وهذا يختصر كل الخطب. والمحافظة عليه تبدأ وتنتهي ب#الإصلاح.

والآن كيف السبيل إلى الإصلاح؟ هذا المطلب الذي أجمع عليه العالم بالنسبة إلى لبنان في سبيل المحافظة على صداقته لنا، من الغرب والشرق، إذ باتت سمعتنا في الخارج في أدنى المستويات نتيجة ممارسات ما صار يُعرف بالطبقة السياسية وفق توصيف الرئيس الفرنسي. كيف السبيل إلى التغيير، تغيير المُمسكين بالقرار من داخل السلطة وخارجها، وإيصال الكفوئين المستقيمين من خارج المصاهرات والوراثات؟ بالوفاق الذي ما زال البعض يصرّ عليه؟ رئيس توافقي قالوا؟ الرئيس الصالح لا يكون إلا توافقياً “أنا منكم، أنا لكم، أنا معكم” قالها الياس سركيس في فندق “الكارلتون” بعد ساعة من انتخابه في أيار 1976.

من هو منا ولنا ومعنا، وليس مع نفسه وحاشيته وعائلته وأصهرته. المُخلصون من الذين لم يستسلموا بعد، مواعيدهم مع هذا الاستحقاق، وليس استسهال تحميل المسؤوليات في غير محلها.

أيها الأصدقاء، يا حمَلة الأقلام ويا أصحاب الإطلالات على الشاشات من “الخبراء”، كفّوا عن التوصيف وتعداد المحن، واقترحوا حلولاً. لا تذهبوا في تحليلاتكم إلى مثل الاتفاق السعودي – الإيراني، وانتظار ما سيأتينا. هذا لا ينفع. انتفضوا على الذين ينتظرون آراء العواصم القريبة أو البعيدة. رئيسنا من عندنا. زمن الوصايات ولّى. فلماذا تلهثون وراءه؟ نحن أنبل شعوب العالم وموطن النور. أليس بمستطاع المقررين في الداخل أن يتفقوا في ما بينهم، أو على الأقل أن يتكلم بعضهم مع البعض الآخر؟ وذلك في سبيل أن نأتي أول الأمر، في مسافة العودة من بعيد، برئيسٍ من عندنا. فهل هذا بالكثير علينا؟

في هذه اللحظات الحرجة من تاريخنا إن دعوة الأقدار لنا أن نستنبط الحلول. أن نرتقي إلى فوق. بالحوار، بالتلاقي أو بغيره تُأتى لأن الأصدقاء قالوا كلمتهم ومشوا. كلام عظة؟ كلا. لأن أصحاب المواعظ المفترضة لعل بعضهم انخرط في السياسة اليومية. إنها دعوة إلى #الغضب البنّاء. لعلنا تركنا أنفسنا قبل أن يتركنا العالم. تركنا الجالسين على مقاعدهم ومقاعد زعاماتهم ينعمون بها ويطلقون التصريحات والوعود، بينما الأمواج تضرب السفينة من كل جوانبها إيذاناً بالغرق. لقد سبق لوزير خارجية فرنسا السابق جان - إيف لودريان أن شبّه لبنان بباخرة التايتانيك التي غرقت عام 1912. والأسطورة تقول إنّ القبطان كان من أوائل من صعد إلى زورق النجاة. قباطنتنا المفترضون هم في أمان. طائراتهم جاهزة وخزائنهم في الخارج مليئة. فممَّ يخافون وممن يخافون؟!

في البدء كانت الكلمة. وأنتم أصحابها. سقط الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 عندما فضحته الأقلام. فالأقلام سيوف حين تتحول إلى غضب.

النهار

المقال السابق
يوم عاشر من الاحتجاجات في فرنسا وسط ازدياد الصدامات العنيفة

الرصد

مقالات ذات صلة

حزب الله مثلما عرفناه لم يعد موجوداً

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية