"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث
تابعونافلاش نيوز

داود الصايغ/ الشخص الثالث والتحرير المزدوج

الرصد
الأربعاء، 13 ديسمبر 2023

داود الصايغ/ الشخص الثالث والتحرير المزدوج

علّمنا التاريخ أن هنالك دائماً رجلاً ثالثاً. كان “الرجل الثالث” أسطورة غراهام غرين الكاتب البريطاني، الذي تقمّص شخصيته في السينما أورسون ويلز في الفيلم الشهير “The Third Man”.

على مرّ التاريخ كان هنالك دائماً شخصٌ ثالث يسبق المتسابقين إلى المركز الأول، أكان في السياسة أم في الرياضة. شخصٌ لم يُحسب له حسابٌ ولا هو احتسب لنفسه.

في نهاية عام 1953 مع اقتراب شغور مركز الرئاسة الفرنسية بعد ولاية الرئيس فانسان أوريول أول رئيس للجمهورية الرابعة، اجتمع البرلمان الفرنسي بمجلسيه في قصر فرساي وفق دستور الجمهورية الرابعة لانتخاب خلفٍ له وذلك ما بين 17 كانون الأول و23 منه. فجرت عشر دوراتٍ من دون أن يحظى أحد المرشحين المعلنين بالأكثرية المطلوبة. ولكن في جلسة 23 الشهر أجرى النواب المجتمعون دورتين متتاليتين من دون أن يخرجوا من المجلس، وربما ساعدهم في ذلك أنه في اليوم التالي يجري الاستعداد لعيد الميلاد الذي يقع في 25 منه، فاهتدوا إلى شخصٍ لم يكن في السباق في الحادية والسبعين من عمره وخارجاً لتوّه من عملية جراحية، فاتفقوا على انتخابه وهو القابع في مقعده ليعرضوا عليه مركز الرئاسة، فخرج من الجلسة وكان أول ما فعله أن اتصل بزوجته جرمين في مدينته لو هافر وقال لها: “جرمين يبدو أنه سأكون أنا الرئيس”. وانتُخب في الدورة الثالثة عشرة. وكان رجلاً حكيماً متواضعاً زاهداً إلى درجة أنه عندما اشتدّت حروب الجزائر عام 1958 في سبيل #التحرير، وبدأ يُطرح اسم الجنرال شارل ديغول للعودة إلى سدّة السلطة بعدما غادرها طوعاً عام 1946 إثر الحرب العالمية الثانية، قال لمن حوله: “أين هو الجنرال ديغول؟ فليأتِ”. فأتى ديغول وتسلّم السلطة من جديد. وعندما جرى حفل انتقال السلطة قال له الرئيس رينيه كوتي وهو يقلّده وشاح الجمهورية الأكبر: “الأول بين الفرنسيين أصبح اليوم الفرنسي الأول” “Le premier des Français est désormais le premier en France” وعامل ديغول الرئيس كوتي بكل احترام، وقد توفي عام 1962.

ولكن هنالك حادثة سبقت ذلك الانتخاب بزمنٍ طويل لعله يجدر بالمسؤولين عندنا أن يقتدوا بها وهو مثل انتخاب البابا يوحنا الثاني والعشرين عام 1316. إذ بعد شهرين من تضارب الاتجاهات بين كرادلة المجمع، الذي عُقد يومها في #فرنسا لأسباب لا مجال لذكرها هنا، أقدم ولي عهد الملك لويس العاشر على احتجاز الكرادلة في كنيسة الدومينيكان، بعدما سدّ كلّ الأبواب والمنافذ عليهم وقال لهم: “لن تخرجوا من هنا إلا وقد انتخبتم بابا جديداً”. وبعد أيامٍ من المناقشات والمناورات وجد المقررون كاردينالاً اسمه جاك دوياس لا يشارك في أي نقاش، في الثانية والسبعين من عمره، نحيل الجسم قصير القامة ذو صوتٍ خافت، فقالوا لننتخبه علّه يكون بابا انتقالياً، فانتخبوه. ولكنه فاجأهم وفاجأ التاريخ بأن بابويته استمرّت 18 سنة إلى أن توفي في عامه التسعين. ومن أمثولته اتخذ البابا الإصلاحي يوحنا الثالث والعشرون صاحب المجمع الفاتيكاني اسم ذلك البابا الذي سبقه في التواضع.

هنالك دائماً رجلٌ ثالث بعيد عن احتكار القادرين، في أزمنة التسلّط ومصادرة القرارات بممارستهم: هذا أو لا أحد. هذا عرفناه وجربناه وتسبب لنا بأفدح أنواع الخسائر التي لا تزال تلاحقنا عبر الذين تلاعبوا بالنص الأسمى، أو أولئك الذين تسلّقوا جدران السلطة مثل جائعي الدهر وهم “أنواعٌ منوّعة” كما في قصيدة أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس. فالجائعون حاضرون دائماً. وليس هنالك من مصلحةٍ تعلو على مصالحهم.

مشكلة لبنان الحالية التي صارت مفضوحة أمام العالم كلّه، وهو ما تحقق منه جان - إيف لودريان في زيارته الأخيرة، أن المصالح الخاصة هي الغالبة. ومع المصالح هنالك الأحقاد. وأصحابها لا يعرفون أنه “لا يحمل الحقد مَن تعلو به الرتب” لأنهم في الأساس أصحاب رتبٍ دُنيا لا يمكن لأي مركزٍ أن يعلو بهم. هذه هي عقدة رئاسة الجمهورية حالياً، وإلا ما الذي حال حتى الآن دون انتخاب رئيس جديد غير تلاقي حسابات من رهنوا لبنان لقرار الخارج، مع من أُبيح لهم التصرف بالداخل كيفما يريدون، وتصرفوا من دون تردد، وفقَ ذلك الاتفاق في شباط 2006 الذي شهد تلاقي هذه المصالح لكل شيء ما عدا المصلحة اللبنانية. إذ في سبيل ذلك المنصب هانَ كلّ شيء عند هؤلاء، من الذين أمسكوا بالقرار وعطّلوا اجتماعات مجلس النواب لمدة سنتين ونصف سنة، إلى الذي كان هاجسه منذ سنوات ولو بالحروب والدمار الوصول إلى ذلك المركز الأول.

فاعتراف جميع اللبنانيين بفضل المقاومة بالتحرير في ربيع 2000 هو شيء، واحتجاز الرئاسة والإصرار على مرشح واحد أو التعطيل هو شيء آخر. وهذا كان موضوع انقسامٍ شديد إلى أن اتضح أن الغالبية الساحقة من اللبنانيين لا تريد إشراك لبنان في حروب غزة، ولا في ما سُميَ “وحدة الساحات”، ولا في ما يُقرره الميدان. هنا لا بد من الإشارة إلى الدور المفقود للجامعة العربية إزاء التزاماتها تجاه أحد أعضائها المعرّض للخطر. أما على الصعيد الداخلي فإن لبنان دفع الأثمان الغالية جداً من حروب الداخل التي كان الفلسطينيون طرفاً فيها، وثانياً لأن قرار الحرب لا يقرره أحد الأفرقاء وحده، لأنه بذلك تنتفي ركيزة أساسية من الركائز التي يقوم عليها لبنان ونظامه السياسي وهو الوفاق المتمثل بمؤسـسات الدولة، إذ ليس هنالك وفاق على الاشتراك في الحروب الفلسطينية ولا على إبقاء الرئاسة شاغرة بقرار من فريق واحد.

وما من محاسب. مأساة لبنان في الماضي القريب وحالياً هي أن ما من أحدٍ خضع للمحاسبة. صديقتنا الأولى فرنسا، وهي تبقى صديقتنا الأولى مهما تقلّبت الأحوال، أخضعت للمحاكمة قبل أيام في وقتٍ واحد كلاً من وزير العدل الحالي إيريك دوبون موريتي، والرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، والسياسي فرنسوا بايرو، وكل واحدٍ منهم بتهمة مختلفة. ولكن التُهمة الموجهة إلى ساركوزي ترجع إلى عام 2007 بتلقّيه أموالاً من معمر القذافي في سبيل تغذية حملته الانتخابية الرئاسية. لم يمرّ عليها الزمن. ولم تشفع صفة وزير العدل الممارس حالياً بأن يُحال إلى محكمة الجمهورية العليا لمحاكمة المسؤولين أثناء قيامهم بوظائفهم.

لقد تعلمنا من فرنسا كلّ شيء. نعم كلّ شيء. ووجهة سفر غالبية من اللبنانيين هي في الأكثر صوب باريس وصوب الـ”كوت دازور” صيفاً. وفرنسا تركت لنا ما بقي حتى الآن من نظمٍ إدارية وقضائية. فلماذا لم يجرؤ أحد على مساءلة المسؤولين عن هدر المليارات على الكهرباء. ولماذا لم يعرف اللبنانيون بعد من الذي أهدر أموالهم في المصارف. ولماذا أخمدت تحقيقات انفجار مرفأ بيروت. وأين هي ملفات الذين تمّ اغتيالهم في ثورة 14 آذار 2005 وقبلها وبعدها؟ لقد تمّ تعطيل القضاء بعد الإدارة الرسمية التي هي الذراع التنفيذية للدولة.

وها هو الموفد الفرنسي القدير لودريان يجول على هؤلاء السياسيين الذين يتقنون مثله لغة موليير من دون أن يتبنوا شيئاً من أحكام بلاده وتراثها في صنع دولة الحق التي ما هي سوى انصياع الدولة للحق، أو للقانون في الترجمة العربية، إذ إن هذا المبدأ السامي لا يسري على سياسيي المحاصصة.

الرجل الثالث موجود. موجودٌ بشرطين: ضرورة وحتمية فكّ ارتهان لبنان للخارج، وهذا يتطلّب إقداماً من الداخل يتمثّل قبل كلّ شيء بوجود مسؤولين يعرفون كيف يخاطبون مقرري العالم غرباً وشرقاً. وهو اليوم غير متوافر. ولم يكن متوافراً في السنوات الماضية الضائعة حيث انقضّت العقوبات على من بأيديهم قرارات اليوم، لأن قدرة لبنان واللبنانيين طوال تاريخهم كانت ولا تزال في حسن علاقاتهم مع الخارج. واليوم ليس هنالك من مسؤولٍ قادرٍ على لفت اهتمام الخارج إلى لبنان، إلى ضرورة تحريره من الارتهان أولاً ووضعه في أولويات المصالح الغربية أميركياً كانت أم فرنسية أم أوروبية. ورغم أن الفاتيكان، الكرسي الرسولي، هو المرجعية الوحيدة التي ليست لها مصالح، لا ننسى أن البابا فرنسيس نفسه في مطلع تموز 2021 وفي كاتدرائية القديس بطرس وأمام بطاركة الشرق دان بقسوة المسؤولين اللبنانيين، وذلك بعد إدانة جميع الآخرين في العواصم.

فالتحرير هو مزدوج. تحريرٌ من الداخل يُبعد ويحاسب أولئك الذين تسببوا بكل أنواع الخراب والانهيارات الأخلاقية قبل المادية، وهم معروفون، وتحريرٌ من الخارج، نضمن فيه أولاً عودة الاهتمام العربي، مذكّرين الدول العربية بأن لبنان كان أقله في طليعة مؤسـسي الجامعة العربية عام 1945، وأفضاله على العرب والعروبة شديدة الوضوح. ونعيد حرارة العلاقة إلى الأصدقاء الغربيين لنقول لهم إن لبنان وحده هو باب الشرق أمامهم وليس أي بلدٍ آخر أو أي مدينة أخرى غير بيروت. وما قيل عن حيفا وسواها هو مجرّد أوهام، فإذا كان مجرى التاريخ يتعثّر أحياناً فإن الجغرافيا عنيدةٌ لا ترحم. فباب الغرب إلى الشرق هو لبنان. ولا ينقص لبنان حالياً سوى مَن يُرشد مَن في الشرق ومن في الغرب إلى هذا الباب الواسع والمضياف والذي لا بديل منه.

النهار

المقال السابق
عبد الرحمن الراشد/ كيف تغيَّرت غزة؟

الرصد

مقالات ذات صلة

مجزرة تدمر... ردّ إسرائيلي على "الحشد" العراقي أم رسالة لدمشق؟

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية