(د ب أ)
عندما بدأت روسيا غزو أوكرانيا، في أواخر شباط/فبراير 2022، أعلن عددٌ من الشخصيات الثقافية الروسية الشهيرة رفض هذا الغزو، ومنهم أسطورة البوب الروسية ألا بوجاتشيفا، ونجمة الروك زامفيرا، والروائية ليودميلا أوليتسكايا، والمخرج المسرحي ديمتري كريموف. و ردَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هذه الاحتجاجات بالقمع. ومن المحتم استمرار قمع أصوات المثقفين المعارضة للحكام الروس.
وفي تحليل نشره موقع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي الأمريكية، قال مؤرخ الأدب الروسي جليب موريف إن الكثيرين يتساءلون عن أوجه الشبه بين حملة قمع المثقفين المعارضين في روسيا حالياً، وحملات القمع ضدهم في الحقبة السوفييتية، لكن الواقع هو أن قمع بوتين للمثقفين يختلف تماماً عن قمع الحكم السوفيتي.
فقد أصدرت الحكومة الروسية مذكرة اعتقال ضد الكاتب المهاجر بوريس أكونين، أحد أشهر كتاب روسيا، وهو ما لم يحدث في الحقبة السوفيتية، حيث لم تصدر مذكرات اعتقال ضد الكتاب المهاجرين المناوئين للحكم السوفيتي، مثل إيفان بونين، ولا زينديا جبيوس، ولا فلاديمير نابوكوف. لذلك كان تصوّر عنوان صحفي يقول “إصدار مذكرة اعتقال بحق فلاديمير نابوكوف” أمراً مثيراً للسخرية.
بالطبع لو وصل نابوكوف إلى الح دود السوفييتية كان سيتم القبض عليه فوراً، لكن السلطات السوفييتية كانت تتردد في استخدام آلتها البيروقراطية ضد خصومها الأيديولوجيين المنشقين.
وعندما انتهت حرب الاتحاد السوفيتي ضد الثقافة المستقلة في منتصف الثمانينيات، عاد هؤلاء المثقفون الذين كانوا مازالوا على قيد الحياة إلى بلادهم كمنتصرين واستعادوا الجنسية السوفييتية، ونشروا رواياتهم وأذاعوا أفلامهم وعرضوا لوحاتهم. بمعنى آخر اعترفت الدولة السوفيتية بالهزيمة في الحرب الثقافية.
وبحسب الباحث في تاريخ الأدب الروسي ميروف فإن بوتين ورفاقه لا يستطيعون نسيان هذا الفصل من التاريخ الروسي، لذلك لماذا يمضون في نفس الطريق الذي انتهى بهزيمة الاتحاد السوفييتي في الحرب الثقافية؟ والإجابة تكمن في رؤيتهم الفريدة للعالم وقيمهم وفهمهم للتاريخ، وكذلك انفصالهم الكامل عن الواقع.
ومن أحدث الأمثلة التي تدعم رؤية جليب ميروف ما حدث في مدينة كيسلوفوديسك بشمال القوقاز، حيث قرر عمدة المدينة مسح قول مأثور للممثل وراقص البالية السوفييتي ميخائيل باريشنكوف، الذي ولد في الاتحاد السوفييتي، ثم انشقّ وهاجر إلى الغرب في السبعينيات، على جدار إحدى مدارس الرقص في المدينة. وقال عمدة المدينة إنه لا يعرف كيف تم كتابة أقوال لهذا المنشق على جدران المدرسة. وبالطبع فإن موقف باريشنكوف المناهض للحرب وجنسيته اللاتفية تجعل كتابة أقواله، سواء كانت مرتبطة برقص الباليه، أو بغيره، في الأماكن العام أمراً غير مقبول.
ويمكن تفسير الموقف العقلاني نسبياً ضد المثقفين المنشقين في الحقبة السوفييتية إلى إيمان نظام الحكم السوفيتي بأهمية الثقافة ودروها في تغيير العالم، في حين لا تبدو الثقافة لها نفس الأهمية لدى نظام حكم بوتين، الذي يرى الأيديولوجيا وسيلة لحل مشكلات سياسية واقتصادية محددة.
والحقيقة أن حكام روسيا الحاليين لا يؤمنون إلا بمؤسسة واحدة وهي الدولة. وهم يعتبرونها معصومة من الخطأ وحجر الزاوية للوطنية. أما الثقافة فهي مجرد هوية لدى البعض. والكتاب المنشقون، مثل أكونين، قد يكونون موهوبين بالفعل، لكن أهميتهم بالنسبة للدولة لا تكاد تذكر عند مقارنتهم بالشؤون العليا للدولة.
ورغم أن النهج الانتقائي في التعامل مع الثقافة والمثقفين في روسيا ليس جديداً، حيث يتم تهميش المعارضين ودفع الموالين إلى الواجهة، فإن نظام بوتين يضع الولاء قبل أي شيء حتى عند التعامل مع عمل فني.
وأصبح هذا النهج إشكالية بعد أن أصبح يمضي عكس اتجاه التاريخ الروسي نفسه. فالكثيرون من الفنانين الذين يشيد بهم الكرملين باعتبارهم أسس الدولة الروسية، ليسوا أ كثر من مجموعة موالين لنظام الحكم. فالحقيقة أن أغلب الإبداع الثقافي الروسي في القرنين التاسع عشر والعشرين، والذي مازال خالداً وحاضراً على مستوى العالم، كان معارضاً لنظم الحكم.
وإذا استمر نهج بوتين الثقافي فقد ينتهي الأمر بوضع أغلب التراث الأدبي الروسي على القائمة السوداء لروسيا. لكن من المستحيل تصوُّر الثقافة الروسية دون الكتاب العظام مثل ليو تولستوي وألكسندر بوكشين ومكسيم غوركي.
ويمكن أن تدعي موسكو عدم وجود شخصيات معارضة، لكن الآلة الأيديولوجية لبوتين تعمل حالياً على استهداف الفنانين المعارضين للحرب في أوكرانيا. وفي إطار النزعة المادية لنظام حكم بوتين، فإنه يسعى لقطع مصدر رزق الفنانين المعارضين من خلال إلغاء حفلاتهم أو سحب كتبهم من المكتبات أو فصلهم من عملهم.
ويرى ميروف أنه يمكن، في نهاية المطاف، القول إن نظام حكم بوتين يعمل دون أدنى فهم إستراتيجي للسياسة الثقافية، وقبل كل ذلك فإنه يتجاهل تماماً دورس التاريخ. فهو يمضي في طريق دون أي تفكير فيما يمكن أن ينتهي به المطاف.