خلاصة النقاشات التي أجريتُها في الساعات الأربع والعشرين الأخيرة، في المنطقة عمومًا ولبنان خصوصًا، مع مجموعة من الشخصيات التي لها باع طويل بشؤون لبنان والشرق الأوسط وبينها مسؤول ملف تنظيمات الإسلام السياسي في واحد من أرقى مراكز الدراسات الجيو سياسية في أوروبا، هي الآتية:” بنجاح الجيش الإسرائيلي في اغتيال الهرم القيادي في حزب الله، يكون قد تمّ القضاء على الجناح اللبناني في هذا التنظيم، وهو الحلقة الأقل أهمية، ليبقى الجناح الإيراني فيه، وهو الحلقة الأقوى، وتمثله المقاومة الإسلامية في لبنان”!
قد يُعيب هذه الخلاصة ما يُعرف ب”انحرافات الإختصار”، ولكنّها، مع شرح تمهيداتها، قد تصبح أكثر وضوحًا.
عندما تقدمت إيران، عملًا بمبدأ “تصدير الثورة”، في عملية تشكيل تنظيم تابع لها في لبنان، وجدت نفسها أمام واقعين. الأوّل، حاجتها إلى أن تبقى ممسكة بالتنظيم الذي تنشئه، بحيث يتواءم مع أجندتها، سواء هادنت أو ساومت أو حاربت. أما الواقع الثاني، فيتمثل في حاجة هذا التنظيم الى التفاعل مع المحيط الذي يعيش فيه، بحيث لا يتمكن من التحشيد فحسب، بل من خدمة “المحشَّدين”، أيضًا.
وهذه الإشكالية لم تكن مطروحة، في مرحلة الحرب “الأهلية”، لكنها تقدمت كل الحسابات، بعد إدخال لبنان في “عصر السلام السوري”. حينها، تمّ توزيع الأدوار، بين اللبنانيين والإيرانيين. أخذ اللبنانيون في “حزب الله” كل ما له علاقة بالسياسة الداخلية. أجروا، في تمهيد للدخول الى الحياة السياسية اللبنانية، تعديلات على أدبياتهم السياسية والعقائدية. وبعد الخروج السوري من لبنان، أصبحت لهم الكلمة العليا في كل ما يختص بشؤون السلطة والإدارة والعلاقة مع الهيئات المدنية. وكان لدى هؤلاء خط أحمر في كل ما يفعلونه، وهو عدم السماح بإلحاق أي أذى من أيّ نوع بـ “المقاومة الإسلامية”، فهم، في مناصبهم، من أجل خدمتها. ولكنّ هذه “اللبننة” بقيت خارج حدود “التنظيم العسكري” الذي يطلقون عليه اسم “المقاومة الإسلامية في لبنان”، إذ إنّه جزء لا يتجزأ من التنظيمات التي يقودها، بشكل كامل وفعلي ولصيق، “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني”. وليس من باب المجاملة أنّ جميع التنظيمات الموالية لإيران، كانت تطلق على القائد التاريخي لهذا الفيلق الجنرال قاسم سليماني لقب “المعلّم”. لقد كان بالفعل هو القائد الفعلي، ولا يعلوه في الهرمية، سوى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي، بصفته “القائد الأعلى”.
ولقد راعت عملية تنظيم “المقاومة الإسلامية في لبنان” هذا الواقع، بحيث لا تتأثر فاعليتها العسكرية، بأيّ “انحرافات” على المستويات السياسية في “حزب الله” أو بأيّ تغييرات أو بأي اغتيالات.
صحيح أنّه بعد اغتيال سليماني تمّ تعزيز وضعية الأمين العام ل”حزب الله” الراحل حسن نصرالله، بسبب خبرته ورمزيته وتفانيه، ولكن الصحيح أكثر أنّ شؤون “المقاومة الإسلامية في لبنان” وشجونها، بقيت من اختصاص “فيلق القدس” وقيادته الإيرانية. ولم يكن نصرالله، في المرحلة الأخيرة، يموّه عند قوله إن مجريات الحرب يحددها الميدان. الميدان كان بعهدة “فيلق القدس”.
وبناء على هذه المقدمات، فإنّ تصفية الهرم القيادي ل”حزب الله” له تأثيرات معنوية على “المقاومة الإسلامية” ولكنّ هناك ثقة في إيران بأنّ لا تأثيرات على فاعليتها العملانية، لأنّها مستقلة عن قيادة الحزب.
وهذا ما يمكنه أن يُفسّر خروج المرشد الإيراني علي خامنئي، للمرة الأولى منذ خمس سنوات، ليؤم المصلين في ذكرى الأسبوع لاغتيال نصرالله. عمليًّا، ولو أنّ خامنئي قال الكثير في “خطبته” إلّا أنّ بيت القصيد كان في تأكيده أنه هو “القائد الأعلى” ل”المقاومة الإسلامية”، وهو بهذه الصفة، يكلّف هذه المقاومة، بعد خسارة قيادتها المعروفة، أن تستمر في الحرب. وهذا تكليف له من ينفذه في المدان. إنه “فيلق القدس”.
ولم يكن تزامن خروج خامنئي الى “منبر القيادة العليا” مع وصول وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الى لبنان، وليد الصدفة، بل كان مخططًا له. ولهذا، فإن الرسالة التي حملها عراقجي الى المكلّفين التواصل مع الوسطاء الأميركيين والفرنسيين، كانت وجوب المواظبة على ربط جبهتي لبنان وغزة، فلا وقف إطلاق للنار على الجبهة اللبنانية، من دون وقفها على الجبهة الغزوية.
قبل اغتيال نصرالله، لم تكن هناك مصلحة إيرانية في إطلاق هذه المواقف المباشرة. كان هو يتولّى الأمر، من خلال “لبننة” المطلوب إيرانيًّا. ولكنّ غيابه، اضطر إيران أن تخرج لتُفهم الجميع بأنّ ما أصاب “حزب الله” معزول عن وضعية “المقاومة الإسلامية”.
ماذا يعني كل ذلك؟
إنّ القوات الإسرائيلية المتوغلة في لبنان، سوف تواجه صعوبات كثيرة وتكاليف ضخمة، إذا لم تكن قد أخذت في الإعتبار، وهي تضع خططها، حقيقة ارتباط المجموعات التي سوف تواجهها في الجنوب ب”فيلق القدس” مباشرة، وإذا لم تُدرك أنّ سائر التنظيمات في المنطقة الموالية لإيران، سوف توائم هجوماتها النوعية عليها، مع مجريات المعركة داخل لبنان.
ولا يمكن قياس تأثيرات الهجومات الإسرائيلية ال متلاحقة على قيادات في “فيلق القدس” على الميدان، نظرًا للإحتياطات البشرية الهائلة في دولة بحجم إيران وفي تنظيم عظيم الموارد البشرية والمالية، مثل الحرس الثوري.
والأخطر بالنسبة لإسرائيل، أنّ “المقاومة الإسلامية”، مع غياب تام للرموز اللبنانية عن الواجهة، لن تتأثر مطلقًا بما سوف تلحقه من تدمير بلبنان، لأنّها تعتبر ذلك “تضحية بسيطة” من أجل “انتصار الجمهورية الإسلامية العظمى بقيادة الولي الفقيه”، خصوصًا مع انخراطها في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، ولهذا فإنّ “توازن الردع” في هذه الحالة انتقل من معادلة إسرائيل- حزب الله الى معادلة إسرائيل- إيران.
بناء عليه، فإنّ إرادة وقف الحرب، لا بدّ من أن تحظى بقيادة لبنانية رسمية وسياسية ضاغطة!