"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث
تابعونافلاش نيوز

بعد نحو 12 عاماً… أنا في سوريا

نيوزاليست
الخميس، 19 ديسمبر 2024

بعد نحو 12 عاماً… أنا في سوريا

ملاذ الزعبي- صحافي سوري

“احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي”, لطالما ارتبطت هذه الأغنية في ذهني بفيديوهات تبثها حسابات إنستغرام سوريّة تصور “سوريا المفيدة” والمناطق السياحية، وأصبحت بالنسبة إلي أغنية تُستخدم ضمن سياق تزييف واقع البلاد وفظاعة ما يحدث فيها

في الطائرة المتّجهة من لندن إلى اسطنبول، حصلت على أولى التهاني بعودتي إلى سوريا بعد غياب، فالشاب الإيراني الكردي الجالس بمحاذاتي أخبرني أنه يأمل بحدث مماثل لسقوط نظام بشار الأسد في بلاده كي يعود إليها هو الآخر.

كانت اسطنبول محطتنا الأولى، فأنا متّجه إلى مطار بيروت ومنها براً إلى دمشق، وهو سيواصل طريقه إلى إربيل كي يلتقي بعض أفراد أسرته القادمين من إيران. لكن حديثنا السياسي هذا توقف هنا، إذ سرعان ما غلبه النعاس بينما جافاني النوم طيلة ساعات الرحلة. حاولت تصفّح كتاب عن سوريا جلبته معي لكنني فشلت في قراءة أكثر من صفحتين (مثلما كنت قد فشلت، أنا وسوريون كثر، في إنجاز أي وظيفة اعتيادية بما يشمل النوم، منذ سيطرة فصائل المعارضة السورية على حلب قبل أكثر من أسبوعين).

أخذتُ أدندن بشكل ساخر أغنية فيروز “احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي”، إذ لطالما ارتبطت هذه الأغنية في ذهني بفيديوهات تبثها حسابات إنستغرام سوريّة تصور “سوريا المفيدة” والمناطق السياحية، وأصبحت بالنسبة إلي أغنية تُستخدم ضمن سياق تزييف واقع البلاد وفظاعة ما يحدث فيها، أغنية عن الإخفاء القسري والتعذيب في السجون والبراميل المتفجّرة ودمار المدن وتهجير السكان.

فشلت مجدداً في النوم خلال ساعات الانتظار الليلية في مطار اسطنبول. وعندما جلست أخيراً بمقعد الطائرة المتّجهة إلى العاصمة اللبنانية، اكتشفت أن الشابين الجالسين بمحاذاتي شقيقان سوريان – فلسطينيان قادمان من ألمانيا لزيارة البلد بدورهما بعد غياب استمر أكثر من تسع سنوات.

حازم ومحمد ترعرعا في منطقة السيدة زينب بضواحي دمشق، وتجنّبا الحديث بالتفصيل عن التطورات الأخيرة وسقوط النظام، هذا رغم إشارتهما الى أنهما شاهدا من سطح منزل الأسرة مجزرة ارتكبتها مروحية في الحي إثر قصفها تشييع أحد قتلى التظاهرات. اتفقت معهما فوراً على مشاركتهما تكاليف ورحلة التاكسي التي ستقلّهما إلى الحدود اللبنانية – السورية، ومن ثم التاكسي الأخرى التي ستتّجه إلى دمشق.

في السوق الحرة بالمطار، اشترى الشابان علبتي معسل للنرجيلة بناء على توصية من أبيهما، ثم انطلقنا في سيارة يقودها سائق ينحدر من بعلبك. كانت صور حسن نصرالله تملأ الطريق، بينما ما زالت مشاهد الأبنية المدمرة نتيجة الغارات الإسرائيلية مرئية بوضوح.

ركّز حديث الشابين مع السائق على جوانب متعلقة بوجود أقارب لهما يقطنون في الضاحية وأصدقاء جنوبيين يعيشون في ألمانيا، حتى أن السؤال عن الحي الذي قتل فيه نصرالله أتى بصيغة توقيرية عن مكان استهداف “السيّد”، وفق تعبير حازم.

عند إشارة مرور، اقتربت فتاة صغيرة محاولة بيعنا مناديل ورقية، سألتها إن كانت سورية، فأجابت بأنها من حلب، سألناها جميعاً بعفوية وبوقت واحد: ما بدك ترجعي؟ فابتسمت وهربت.

معظم أوقات الطريق باتجاه نقطة المصنع الحدودية، واصل حازم ومحمد الحديث مع الشوفير عن العيش المشترك وكلام غائم عن السياسة والسياسيين الذين يفرقون “بيننا”. تحدث أحد الشقيقين بإسهاب عن جمال بلادنا مقارنة بالملل الذي يعيشه في أوروبا.

بدا المشهد مشوشاً عند النقطة الحدودية: عشرات العائلات من اللاجئين تستعد للعودة، سيارات محملة بأغراض، سيارات أجرة لبنانية، أفراد سوريون يبدو واضحاً عليهم أنهم آتون من بلدان غربية، الجميع سعداء ومتحمسون، صحافيون أجانب، حركة هائلة كلها باتجاه واحد تقريباً.

وعلى مرأى الجميع تعبر عائلات، كيلومترات عدة مشياً على الأقدام، وبشكل غير قانوني، تلة مجاورة للمعبر عائدة باتجاه سوريا. أخبرنا السائق الذي استلمنا من الجانب السوري من الحدود، لأنه لا يُسمح للسائقين الآن بالدخول إلى لبنان، بأن هؤلاء الذين يعبرون من التلال معظمهم لاجئون من دون أوراق ثبوتية أو إقامات.

والد محمد وحازم كان ينتظرهما مع السائق، انهمرت دموع الشابين وأبيهما عند اللقاء، كاد الأب أن يركع ليقبل قدمي ابنيه العائدين، امتد وقت العناق القوي والتربيت على الأكتاف. تأملت المشهد بتأثر بينما انهمك الشوفير بتعبئة سيارته بالبنزين بشكل يدوي من عبوات بلاستيكية تُباع عند الحدود وتجذب بدورها تجارة غير شرعية للمحروقات بسبب غلائها وفقدانها الجزئي من الأسواق في سوريا.

ختم الجوازات في الجانب اللبناني كان سريعاً. المشهد بعدها أصبح مغايراً. سيارات بلوحات لبنانية مهشّمة الزجاج وبعضها مهجور في وسط الطريق، قيل إنها تابعة لعناصر من حزب الله فروا بعيد سقوط النظام. لا يوجد أي موظف في الجانب السوري، لا أحد لختم الجوازات أو التدقيق فيها. الجميع يواصل طريقه إلى الداخل السوري. بعض نوافذ الأبنية محطمة، المنطقة الحرة منهوبة وبناؤها متضرر. سرعان ما تحولت نبرة حازم ومحمد، أخذا يشتمان النظام وكل ما يتعلق به وبعهده، كانت المرة الأولى في حياتي التي أشهد فيها مثل هذه المفارقة، أي أن يتجنب سوري نقد نظام الأسد خارج البلاد في مقابل الشعور بالحرية المطلقة بشتمه بأقذع الألفاظ داخل البلاد.

واجهت بعض الصعوبة لأصرف بعض الأموال، سعر الليرة مقابل الدولار كان يتأرجح في الأيام الأخيرة، أخذت رزمة هائلة من الأوراق النقدية مقابل 50 دولاراً، جميعها من فئة ألفي ليرة، أو الجحشين كما بات السوريون يقولون ساخرين عن هذه الورقة التي تحمل صورة بشار الأسد، في مقابل الجحش، أي ورقة الألف ليرة الأقدم التي تحمل صورة حافظ الأسد.

السائق الذي أقلنا والذي يعمل على خط دمشق – بيروت، كان يشتم النظام بدوره، وكلما مررنا من مكان حاجز أمني أو عسكري سابق، عدّد أنواع الانتهاكات والإساءات التي تخصص بها هذا الحاجز، بدءاً من الشتائم اللفظية والتعامل الفج، مروراً ببعثرة الأغراض المتعمدة لدى التفتيش والسرقات والأتاوات، وصولاً إلى الضرب والاعتقالات والتعذيب والإخفاء القسري والاغتصاب. قال إنه موبايله كان لا يهدأ طيلة عمله سابقاً، لأن أسرته تواظب على الاتصال به كل بضعة دقائق للاطمئنان عليه.

اختفت هذه الحواجز جميعها، مع بقاء آثار تدل عليها: غرفة صغيرة محروقة، جهاز الفحص الإلكتروني للسيارات وقد تعرض للتخريب، سيارة جيب عسكرية محطّمة.

على الطريق، ثمة دبابات مركونة ومهجورة كل كيلومترات عدة، رأينا كذلك راجمة صواريخ محترقة، وصوراً ممزقة للأسدين، بعض اللوحات الإسمنتية المرتفعة عن مسار الطريق والحاملة صورة حافظ الأسد ما زالت كما هي. قال أبو محمد مازجاً بين الغضب والسخرية، إن تدمير صورهما وشعاراتهما التي تملأ سوريا تحتاج إلى جهود وزارة منفصلة.

ودّعت رفيقَي الرحلة عند أول أوتوستراد المزة. استقليت سيارة أجرة مرتبكاً، أغنية المسجل تصدح بصوت عبد الباسط الساروت: جنة جنة يا وطنا. ياه كم دُفع ثمن أن تضع أغنية على مسجل السيارة بحرية. اتجهت نحو فرع لشركة سيرياتيل لشراء خط موبايل. المكان مزدحم ومنظم، بعض الزبائن مقاتلون وصحافيون ومغتربون عائدون للتو. أُخفي العلم السابق على إحدى اللوحات الإعلانية للشركة في الصالة بورقة بيضاء.

للمرة الأولى في دمشق أسمع هذا التنوع من اللهجات السورية بوضوح وفي كل مكان، أدالبة وحماصنة وقلمونيون وحلبيون وحوارنة وديريون ودروز. واصلت طريقي مشياً على الأقدام باتجاه ساحة الأمويين، لم ألحظ تغييرات كبيرة. عبرت قبالة كلية الآداب والعلوم الإنسانية حيث درست. البلد مهترئة، وجوه المارة تجمع بين الفرح والتعب، بعض الطالبات الجامعيات ما زلن يلتحفن العلم الجديد بوضع احتفالي.

عند ساحة الأمويين، تحول تمثال حافظ الأسد المحطم والمرمي على الطريق والذي جُرّ من الجامعة، إلى قبلة للصور التذكارية. قابلت صديقتي سفانا بعد انقطاع، تعانقنا طويلاً ثم ركبنا سيارة أجرة باتجاه البرامكة. غاصت السيارة في الازدحام والتلوث وسط غياب جزئي لشرطة المرور. لاحظت لوحة إعلانية بصورة العلم الجديد مع شعار: “الآن سيبدأ بناء سوريا الجديدة”، بينما على الجدران بالإمكان ملاحظة صور المفقودين والمخفيين قسراً الذين ما زال أهاليهم يتمسكون بأي أمل للعثور عليهم.

درج

المقال السابق
مسؤولة أميركية في دمشق..قريبا؟
نيوزاليست

نيوزاليست

مقالات ذات صلة

هكذا تغلغلت إيران في سوريا ثقافيا واجتماعيا

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية