في الآونة الأخيرة، أبدع الذكاء الاصطناعي في إنجازاته إلى حد أنها لم تعد تترك لدينا وقع المفاجأة أو الصدمة. هذه التكنولوجيا المتفوقة، المتهمة بأنها خطر يتهددنا جميعاً بالإبادة، الموصوفة من بعض صانعيها أنفسهم بأنها ليست أقل شؤماً من قنبلة نووية أو فيروس فتاك منفلت العقال، أثبتت أن في يدها أيضاً الحفاظ على حياتنا، أو تحسينها أقله. صار معلوماً مثلاً أنها ساعدت في تطوير مضاد حيوي يقضي على أنواع مميتة من البكتيريا الخارقة المقاومة للمضادات الحيوية المتوفرة، وأنها تخوض غمار تشخيص الأمراض والتنبؤ بها. وقد تحدثت “نيويورك تايمز” في تقرير حديث لها عن ذكاء اصطناعي ساعد امرأة مشلولة فقدت قدرتها على الكلام في التعبير عن نفسها بالكلمات مجدداً.
في التفاصيل أن آن جونسون، التي كانت مدربة كرة طائرة، أصيبت وهي بعد في سن الثلاثين وأم لطفل رضيع بسكتة دماغية تركتها مصابة بالشلل وعاجزة عن النطق.
ولكن بعد مرور سنوات عدة على إصابتها، وتحديداً يوم الأربعاء الماضي، كشف علماء النقاب عن إنجاز مهم يمد لجونسون ولمرضى آخرين يد العون كي يحظوا بفرصة التحدث مجدداً.
في حدث بارز، كما وصفته “نيويورك تايم ز”، جمع بين علم الأعصاب والذكاء الاصطناعي، تمكنت أقطاب كهربائية (إلكترودات) مزروعة جراحياً من فك رموز إشارات يطلقها دماغ جونسون، بينما كانت تحاول أن تنطق جمل الكلمات دونما إصدار أي صوت. هكذا، حولت هذه التكنولوجيا إشارات دماغ المريضة )علماً أن الدماغ يعمل عبر تناقل موجات كهربائية تنتقل بين الخلايا العصبية التي تكونه( إلى لغة مكتوبة ومسموعة، وسمحت للشخصية الافتراضية الشبيهة لجونسون، أو “الأفاتار”، الظاهرة على شاشة الكمبيوتر بنطق الكلمات، إضافة إلى أداء الابتسامات وزم الشفتين، وغيرهما من تعبيرات.
يقول الخبراء إن البحث حول هذا الإنجاز المنشور في مجلة “نيتشر” Nature، يعرض التفاصيل بشأن سابقة من نوعها في إنشاء كلمات منطوقة وتعابير وجه من إشارات الدماغ مباشرة.
اختارت جونسون الشبيهة الافتراضية لها، واستخدم الباحثون كلمات كانت ضمنتها خطاباً ألقته في زفافها كي يطوروا صوت هذه الصورة الرمزية.
“نحاول أن نعيد الناس إلى ما كانوا عليه” قبل فقدانهم القدرة على النطق، قال المشرف على فريق البحاثة، الدكتور إدوارد تشانغ، رئيس قسم جراحة الأعصاب في “جامعة كاليفورنيا”، في سان فرانسيسكو.
جونسون، البالغة من العمر 48 سنة الآن، تشعر كأنها قد “عادت شخصاً كاملاً مرة أخرى”، كما نقلت عنها “نيويورك تايمز”.
ترمي هذه التكنولوجيا إلى تقديم المساعدة للأشخاص الذين صاروا عاجزين عن الكلام نتيجة تعرضهم لسكتة دماغية أو حالات مثل الشلل الدماغي والتصلب الجانبي الضموري، علماً أن الأخير حالة مرضية تصيب الجهاز العصبي وتؤثر في الخلايا العصبية في الدماغ والحبل النخاعي. وكي تجدي نفعاً، لا بد من أن تكون الغرسة الدماغية لدى جونسون متصلة بواسطة كابل من رأسها إلى جهاز كمبيوتر، ولكن فريق البحاثة الذي يتولى متابعتها وعلماء آخرين يعكفون على تطوير نسخ لاسلكية من هذا النظام الذكي. ويحدو الباحثين أمل في أنه في نهاية المطاف سيتمكن العاجزون عن النطق من التحدث في الوقت الفعلي من خلال صور محوسبة تنقل النغمة ونبرة الصوت، وحتى العواطف من قبيل الفرح والغضب.
اللافت في هذا الابتكار أن الباحثين حصلوا من الجزء السطحي من الدماغ فحسب على معلومات جيدة جداً حول الخصائص المختلفة الخاصة بالتواصل”، كما نقلت “نيويورك تايمز” عن الدكتور باراغ باتيل، جراح أعصاب ومهندس في الطب الحيوي في “جامعة ميشيغان”، طلبت منه مجلة “نايتشر” إجراء مراجعة للدراسة قبل نشرها.
في الواقع، تعكس تجربة جونسون التقدم السريع الذي يشهده هذا الحقل. قبل سنتين فقط، نشر الفريق عينه بحثاً استخدم فيه رجل مشلول، سمي “بانشو”، غرسة دماغية إلكترونية وخوارزمية ذكية لإنتاج 50 كلمة أساسية، من بينها “مرحباً” و”جائع”، التي عرضها الحاسوب على شكل نص، بعدما حاول الرجل أن ينطقها.
تحتوي الغرسة الدماغية الإلكترونية لدى جونسون ضعف عدد الأقطاب الكهربائية تقريباً التي احتوت عليها غرسة “بانشو”، ما يعزز قدرتها على اكتشاف إشارات الدماغ من طريق عمليات حسية وحركية متصلة بالكلام والفم والشفتين والفك واللسان والحنجرة. ولم يكتف الباحثون بتدريب هذا الذكاء الاصطناعي على التعرف إلى المفردات، بل أيضاً إلى ما يسمى وحدات الصوت، من قبيل “أوه” و”آه”، التي تشكل مجتمعة أي كلمة.
وفيما أنتج النظام المعتمد في حالة “بانشو” ما بين 15 و18 كلمة في الدقيقة، كان معدل نظام جونسون 78 كلمة باستخدام قائمة مفردات أكبر كثيراً، علماً أن معدل الكلمات في المحادثة النموذجية يبلغ نحو 160 كلمة في الدقيقة.
عندما بدأ الباحثون العمل مع جونسون، لم يكن في نيتهم استخدام الشخصية الافتراضية أو الصوت المسموع. ولكن النتائج المبشرة كانت بمثابة “ضوء أخضر” حثهم على “تجريب خطوات أصعب”، والمضي قدماً بها”، كما قال الدكتور ديفيد موسيس، مدير المشروع.
لقد برمج الباحثون خوارزمية منوطة بها مهمة فك رموز نشاط الدماغ إلى أشكال موجية صوتية، وإنتاج كلام صوتي”، كما قال كايلو ليتلجون، طالب في مرحلة الدراسات العليا في “جامعة كاليفورنيا” وأحد الباحثين الرئيسين في الدراسة، إلى جانب الدكتور موسيس، وشون ميتزغر، وأليكس سيلفا، ومارغريت سيتون.
بالتعاون مع شركة متخصصة في إنشاء تعابير وجه متحركة، زود الباحثون الشبيهة الافتراضية (الأفاتار) ببيانات عن حركات العضلات. ثم حاولت جونسون أن تؤدي حركات وجه تعبر عن السعادة والحزن والمفاجأة. كذلك قامت بحركات مختلفة في الفك واللسان والشفتين. وفي مرحلة لاحقة، نُقلت إشارات دماغها بعد فك رموز إشاراتها إلى وجه “الأفاتار”.
ولحسن الحظ، تتحرك عجلة التقدم في هذا المجال بسرعة مذهلة إلى حد أن الخبراء يعتقدون أن النسخ اللاسلكية المجازة ربما تكون متاحة خلال العقد المقبل.
يوم الأربعاء، نشرت “نايتشر” أيضاً دراسة اضطلع بها فريق آخر تشتمل على أقطاب كهربائية مزروعة بشكل أعمق في الدماغ، بغية الكشف عن نشاط الخلايا العصبية الفردية، حسبما قال الدكتور جيمي هندرسون، بروفيسور في جراحة الأعصاب في “جامعة ستانفورد” والمشرف على الفريق.
وفك نظام هذه الدراسة الرموز في الجمل بمعدل 62 كلمة في الدقيقة، التي حاول المشارك في الدراسة بات بينيت (68 سنة)، المصاب بمرض التصلب الجانبي الضموري، نطقها من بين عدد كبير من المفردات.
استخدمت الدراستان كلتاهما نموذجين لغويين تنبؤيين ذكيين للمساعدة في تخمين الكلمات في الجمل، ويأمل العلماء في تطوير خوارزميات ذكية أكثر تطوراً، مشيرين إلى أن التكنولوجيا الموجودة بين أيديهم الآن ليست سوى البداية.
بناء عليه، وإذ يؤكد الخبراء أن هذه الأنظمة الذكية لا تقرأ عقول الناس أو أفكارهم، ليس مستبعداً أن تكون قراءة الأفكار ممكنة في نهاية المطاف، ما يدفع إلى الواجهة مرة أخرى مخاطر الذكاء الاصطناعي المتصلة بالأخلاقيات والخصوصية والخوف من بطش الآلة، ويضع على عاتق الخبراء أيضاً مهمة صوغ ضوابط وقوانين تحكم هذه الأنظمة الذكية وتبقيها تحت السيطرة.