استوقفتني في حفل تخرّج ابنتي، كلمة مدير معهد الدراسات العليا للحقوق في فرنسا، عندما توجّه إلى المحتفى بهم قائلًا: “دعوا شغفكم يوجّه خياراتكم، ليصبح عملكم مصدرًا لتحقيق ذواتكم… افعلوا ما يأمركم به قلبكم، بدلاً من السماح للعوامل الماديّة والماليّة بتوجيهكم”. وعدت بالذاكرة إلى ثلاثة عقود مضت، عندما توجّه إلينا مدير كلية الإعلام والتوثيق حينها، بالنصيحة ذاتها مستشهدًا بأشخاص ناجحين، اتّبعوا شغفهم فحصدوا الرضا والمال معًا.
مما لا شكّ فيه أن هؤلاء المتكلّمين، لو لم يكونوا نماذج ناجحة، لما اعتلوا المنابر ليشاركوا نجاحات تلامذة هم أمل الأوطان ومستقبلها، ولكن هل هم على حقّ؟ وهل للمتخرجين ان يستمعوا إلى صدى قلوبهم ويتّبعوا شغفهم من دون التفكير بالمردود المادي؟ وماذا تقول الأبحاث العلمية حول هذا الموضوع؟
قد تبدو قصص هؤلاء “الشغوفين”، وهم يروون تجاربهم، أكثر جاذبية وإثارة من روايات الناجحين المتنقّلين في أروقة كبريات الشركات والمؤسسات، كما أنّ الاستماع إليها، مع ما تتركه من متعة وانبهار عند المتلقّي، قد تكون محفّزًا للكثير من الشباب الطامحين إلى الحصول على الرضا الوظيفي من خلال اتباع شغفهم، بالحذو حذوهم، ولكن ماذا عن الأشخاص الذين حاولوا ولم ينجحوا؟ ولماذا تسليط الضوء على “الرابحين” في الحياة وتجاهل “الخاسرين”؟ ألا يؤثّرّ هذا “التمييز” سلبًا على خيارات هؤلاء الشباب وتقرير مصيرهم؟ وماذا عن العوامل الاجتماعية والنفسية وتأثيرها على مستقبل الفرد؟
“تحيّز الناجي”
ثمة مصطلح في “الأدب العلمي” يعرف ب “تحيّز الناجي”، ومعناه تسليط الضوء على الشخصيات الناجحة والتعتيم على الأشخاص الذين حاولوا ولم يصلوا، فكم من شاب، بسبب عدم توافر الموارد، لم ينجح بالاقتداء ب بيل غايتس مثلًا، الذي كان يُعدِّل “الكومبيوترات” في قبو منزله. ولماذا لا يكون ما حقّقه بيل غايتس محض صدفة أو استثناء مثلًا، وليس هو القاعدة؟
“الأهداف المفيدة يمكن تطويرها وتحقيقها على مدار مسار مهني طويل وفي جميع القطاعات المهنية، بغض النظر عن نوع العمل”
يقول البروفيسور مورتن هانسن من جامعة بيركلي في كاليفورنيا: “إن تأثيرات التحيّزات الإدراكية على الفكر أو ما يعرف ب “بعد الحدث” غالبًا ما يترك بصمة إيجابية بعد حصول الأمر، فإعادة بناء القصة متى وصلت إلى خواتيمها وحققت غايتها يصبح شيّقًا وسهلًا”.
وفي دراسة عن الشغف في العمل، أعدّها هانسن وفريقه شارك فيها حوالي خمسة آلاف مدير وموظّف، استخدم فيها مؤشّرًا لقياس مدى شغف الأفراد بعملهم ومدى شعورهم بأهميتهم وفائدتهم، تبيّن أن الأشخاص الذين يسجلّون درجات عالية في هذين الجانبين يحقّقون أداءً جيدًا ويحصلون على تقييمات مُرْضِية من قبل رؤسائهم.
ويقول هانسن: “متى شعر الفرد بأنّ عمله له معنى ومنفعة، فذلك يحفّزه على المواظبة لتقديم أفضل أداء ممكن”.
ولأنّ الرضا والأداء الجيّدين في العمل لا يمكن فصلهما عن المتعة والمنفعة، ينصح هانسن الشباب لتحقيق أحلامهم: “بتوجيه شغفهم نحو أهداف مفيدة للمجتمع والعالم من حولهم، الذي هو المفتاح لتحقيق النجاح والرضا في حياتهم المهنية، فالأهداف المفيدة يمكن تطويرها وتحقيقها على مدار مسار مهني طويل وفي جميع القطاعات المهنية، بغض النظر عن نوع العمل”.
في العام ٢٠٠٨ أجرى آدم غرانت وفريقه من جامعة كارولينا الشمالية دراسة على “منقذي السباحين” في المنتجعات والشواطئ البحرية، بحيث قام بتقسيمهم إلى مجموعتين: الأولى للمراقبة، والثانية للإنقاذ، فتبيّن في الأسابيع التي تلت الدراسة، أن ٤٣٪ من أعضاء المجموعة الإنقاذية، قرروا القيام بأعمال تطوّعية إنسانية، ويقول غرانت: “الشعور بالفائدة، يعني الكثير خاصة إذا كان ذات بعد إنساني، كما انه يعزّز الدافع، على ما يبدو أكثر من المتعة وحدها، فالعمل الشغوف لا يمكن أن يتحقق إذا لم يترافق مع العواطف الجميلة والمكاسب المعنوية”.
طبعًا، إنّ الاستمتاع بالعمل الذي يقوم به المرء، وما يمثّله من اكتفاء هو عنصر رئيسي لتحقيق الرضا الوظيفي، وذلك لما يتركه من شعور بالثراء والاقتناع بالدور الذي يؤديه، كما أنّ الأهداف المفيدة يمكن تنميتها في أي قطاع من القطاعات المهنيّة وبغض النظر عن مجالها، فالشعور بالفائدة لا يقتصر مثلًا على مجالات الرعاية الصحيّة أو التعليم، فكل مهنة يتمّ تغذيتها من دوافع المرء الداخلية القوية، ممكن أنّ تكون حافزًا للمضي قدمًا والاستمرار وتحقيق النجاح الذي يكون طعمه مختلفًا متى كان لجني فائدة وليس للبحث فقط عن الشغف.