في حين يعمل التطوّر الشخصي على تحقيق السعادة مؤكدًا على الرفاهية العاطفية، هناك من يحذّر منها واصفًا إياها بأنها “سيف ذو حدّين” لما تتركه من شعور بالبلاهة والفراغ، وللتعمّق أكثر وأكثر ينبغي علينا فهم معنى الوجود، الذي نادرًا ما يخلو من المعاناة.
كرّس علم النفس الإيجابي منذ أكثر من ثلاثين سنة أبحاثه حول مفهوم السعادة التي من دون أدنى شك هي الهدف الأسمى والأساسي لتطوير الذات، ولكن، وكما أنّ “الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة”، فإنّ الطريق إلى السعادة على خلاف ما يظنّ البعض، غالبًا ما يكون محفوفًا بالتعب والملل والأشواك .
تحت عنوان “ثمة اختلاف بين حياة سعيدة وحياة لها معنى”، كتب البروفسور في علم النفس روي باوميستر في العام ٢٠١٣، مقالًا ترك أثرًا كبيرًا، لما أثاره من جدل علميّ حاد، أسّس لموجة جديدة من الأبحاث في علم النفس الإيجابي، بحيث أشار فيه إلى “أنّ السعادة ليست مجرّد رفاهية فقط، إنما هي وليدة تجارب حياتية متعبة، غير ممتعة وبالتالي غير سعيدة”.
هذه الفكرة ليست جديدة بحد ذاتها، فقد تحدث عنها العديد من الفلاسفة أمثال أرسطو في مناقشته لل”هيدونية” التي تبحث في المقام الأول عن المتعة، والتي تختلف عن اليوديمونية، التي تسعى لحياة جيّدة، فاعلة، متعلّقة بالقيم النبيلة.
أما لماذا أثار مقال روي باوميستر الكثير من الجدل؟
لأنه أظهر أنّ “اللّذة تكون متميّزة عندما يتعلق الأمر بالسّعادة، خصوصًا إذا كان لها علاقة بالجوهر، وانّ بعض الأعمال التي تزيد من الرفاهية الذاتية، تقلّل في الوقت نفسه من الشعور بأهميّة الحياة”، كما يقول.
للتوصّل إلى هذا الاستنتاج، أجرى باوميستر وفريقه دراسة على ما يقارب ٤٠٠ أمريكي تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٧٨ عامًا، طُلب منهم تقييم أنفسهم على صعيد الرفاهيّة، ومدى شعورهم بالفائدة وإحساسهم بالفاعلية وتأثيرها على أنشطتهم، فأظهرت النتائج ترابطًا هامًا بين البُعدين.
الأطفال… تحدّيات، لكن لها معنى!
بناءً على هذه النتائج الأولية، ظهر أن ثمة أنشطة على الرغم من أنّ المتعة والمعنى فيها يتعارضان، إلا أنها تؤمّن شعورًا بالفائدة يعود على المرء بالسّعادة. فمعظم الآباء والأمهات مثلًا، يقولون إن أطفالهم يساهمون في سعادتهم من خلال إثراء حياتهم وجعلها أكثر اكتمالاً، فعلى الرغم من أن العناية بالأطفال هي واحدة من الأنشطة التي تعطي شعورًا بالمعنى والفائدة، إلا أنها تقلّل بشكل كبير من الرفاهية الفورية، فهي تعطي للحياة معنى، ولكنها في الوقت عينه، تتطلّب تضحيات ثقيلة على مستوى الرفاهية الشخصية.
كذلك الأمر بالنسبة إلى انتظار أشخاص أثناء حفلة أو موعد، فعلى الرغم من أنه يجعلنا نشعر بعدم الراحة، لما يسبّبه من قلق بسبب تأخرهم، وانزعاج لعدم التزامهم بالوقت المحدّد، إلا أنّه في الوقت عينه يمنح إحساسًا بالمعنى، على عكس الحال في النقاشات في أمور السياسة أو الدين مثلًا، أو هدر الوقت على مواقع التواصل الاجتماعي، الذي يمنح في لحظتها، شعورًا بالغبطة، ليتبيّن لاحقًا بأنه كان تافهًا وبلا جدوى ومَضْيَعة للوقت.
عند النظر بعناية إلى الأنشطة غير الممتعة والتي تُعتبر ذات معنى، يظهر عامل مهم هو الزمن، كون معظم هذه الأنشطة تتراوح بين الحاضر والمستقبل، فهي على الرغم من عدم تأمينها للمتعة الآنيّة، إلا أنها قد تساهم، -كما هو متوقّع- في بناء مستقبل أفضل، فالحرمان من الخروج بسبب تكريس بعد الظهر مثلًا لتدريس الأبناء، يُظهِر بوضوح هذه النقطة، فالملل والانتظار والاستياء الذين نشعر بهم، يتم التنازل عنهم من أجل النتائج المرتقبة والفوائد المتوقّعة.
فبحسب روي بومايستر، “إنّ التفكير بالمستقبل يمكن أن يقلّل بشكل كبير من الرفاهية الحالية، ولكنه يعطي شعورًا بالفائدة وبمعنى الحياة”.
في عام ٢٠٠٧، أجرى معهد “غالوب” الأميركي استطلاعًا على أكثر من ١٤٠ ألف شخص من ١٣٢ دولة، بحيث طُلب منهم أن يشيروا إلى مدى وجود أهداف مهمة ومعنى لحياتهم، وكما كان متوقعاً، أظهرت البلدان الأكثر ثراءً وأمانًا وتمتعًا بنظام اجتماعي قوي، مثل النرويج وكندا وسويسرا، فرصًا أكبر لسكانها بأن يكونوا سعداء، من دون أن يعيشوا بالضرورة حياة ذات معنى وفائدة، على عكس البلدان الأخرى الأكثر فقرًا والتي غالبًا ما تعاني من الاضطرابات، مثل سيراليون وأنغولا وتشاد على سبيل المثال.
لربما حان الوقت لإعادة النظر في تعريفنا للسعادة، وإضافة إليها كلمة هادئة، ف”السعادة الهادئة”، المكوّنة من المشاعر والملّذات والعواطف الآنيّة اللطيفة والسلسة، قد يكون لها بعدًا أكثر نشاطًا وأهمية وإفادة للمرء، تجعله يشعر، حتى ولو كان الثمن فيه الكثير من الجهود والتضحيات والضغوطات، بأنّ مروره على هذه الأرض… له جدوى.