في شباط / فبراير ٢٠٠٧، حققت عالمة ا لآثار إلينا ماريا مينوتي اكتشافًا مذهلًا خلال تنقيبها عن الآثار في مدينة فالدارو في شمال إيطاليا، إذ عثرت على جثتين متعانقتين تعودان للعصر النيوليتيكي، لرجل وامرأة دفنا في هذا الوضع قبل ٥٠٠٠ أو ٦٠٠٠ سنة.
وأثار هذا الاكتشاف الذي أطلق عليه اسم “عشاق فالدارو”، جدلاً كبيراً في حينه، وحظي باهتمام واسع من قبل وسائل الإعلام المحليّة والعالمية.
والسؤالان اللذان حيّرا العلماء هما: هل كان هذان الشخصان حقاً عاشقين؟ ولماذا تمّ دفِنهما بهذه الطريقة؟
ودفع هذان السؤالان بالعلماء إلى الاهتمام بالعناق الذي تبيّن أنه كان سائدًا بين البشر منذ آلاف السنين، فهذا السلوك الذي هو جزء من حياة الفرد اليومية قد يكون غريزيًا، إذ يُعتمد في اللحظات السعيدة والحزينة وفي حالات التهنئة والمواساة، فهذه الحركة البسيطة المتعدّدة الاستخدامات للتواصل غير اللفظي، تضاهي ربما ألف كلمة.
"عشاق فالدارو"
العناق مفيد للصحّة
وبفعل الأبحاث المتعاقبة تبيّن أنّ فوائد العناق على صحة الإنسان النفسية والجسدية لا حدود لها كما ظهر أنّ العناق يسهم في النمو المعرفي والعاطفي للأطفال.
في العام ٢٠٠٥، قام فريق الطبيبة كاتلين لايت في جامعة يوتا الأميركية بقياس ضغط الدم لنساء متطوّعات عانقن أحباءهن لمدة عشرين ثانية، كما راقبت تطور تركيز الأوكسيتوسين (هرمون له علاقة بالروابط العاطفية) في دمهن، قبل العناق وبعده، فلاحظت أن العناق خفّض من مستوى ضغط الدم وزاد تركيز الأوكسيتوسين لديهن، وقد يكون لهذين التأثيرين صلة، إذ أنّ أبحاثا أخرى أظهرت في ما بعد، أن هذا الهرمون يساهم في خفض الضغط، عند الإنسان كما الحيوان.
العناق من اليمين أو اليسار
في دراسة متأنية للعناق المتشابك أجراها في العام ٢٠١٩ كلّ من الهولندي جوليان باخيزر والألماني سيباستيان أوكلينبورغ، لاحظ الباحثان أن غالبية الأشخاص يفضّلون عناق اليد اليمنى التي تحيط الرقبة لتصل إلى الكتف الأيسر للشخص الآخر، لكن تبيّن أن العناق من اليسار أكثر شيوعا سواء كان في الفرح أو الحزن مقارنة بالمواقف المحايدة.
أما السبب فيعود كما قالا إلى تأثير الجزء الأيمن من الدماغ، الذي يتحكّم بالجانب الأيسر من الجسم ويعالج المشاعر الإيجابية والسلبية على حد سواء، ويشرحان: “أثناء العناق، تتفاعل الشبكات العاطفية والحركية في الدماغ وتؤدي إلى تفعيل الجزء الأيسر من الجسم”.
كذلك لاحظ باخيزر وأوكلينبورغ أن العناق بين الرجال يأخذ اتجاهاً مختلفًا، إذ حدد الباحثان ميلًا أقوى إلى جهة اليسار حتى في المواقف المحايدة. وبحسب الدراسة، هذا يعني أن العديد من الرجال ينظرون إلى العناق مع أبناء جنسهم على أنه أمر سلبي، حتى في المواقف مثل التحية، وبسبب المشاعر السلبية، يصبح النصف الأيمن من الدماغ أكثر نشاطا هنا، ويؤثر على التنفيذ الحركي لليسار، مع الأخذ في الاعتبار ثقافة المجتمعات وعاداتها وتقاليدها وتأثيرها على السلوك البشري.
العناق حاجة فيزيولوجية
في دراسة أخرى أجرتها أنا لينا دورين وفريقها من جامعة لندن على أربعين امرأة طلبت منهن أن يحتضنّ أشخاصًا تجري محاكماتهم داخل المحكمة، لمدة تتراوح بن الثانية الواحدة والخمس ثوانٍ والعشر ثوانٍ، اتضح أن المشاركات وجدن في العناق لمدة ثانية واحدة أقل متعة بكثير من ذلك الذي استمر خمس أو عشر ثوانٍ، ليتم الاستنتاج أنّ إقامة اتصال جسدي حقيقي وحميمي مع شخص ما، يستلزم بعض الوقت.
حماية ضد الفيروسات
إلا أن التناقض التي أظهرته الأبحاث، وعلى عكس ما يعتقده الجميع، هو أنّ العناق يعزّز الدفاعات الطبيعية للجسم، إذ اكتشف فريق شيلدون كوهين في جامعة كارنيغي ميلون في الولايات المتحدة، بعد أن طرح على مدى أسابيع متتالية الأسئلة التالية على ٤٠٠ متطوّع، مثل:
“بأي وتيرة تحتضن الأشخاص؟ كم نزاعًا خضت في الأيام القليلة الماضية؟ هل تشعر بالدعم من أقاربك؟”، ثم قاموا بعد ذلك- بموافقتهم طبعًا- بحقنهم بفيروسات الزكام والإنفلونزا، وأخضعوهم للمراقبة لمدة تتراوح بين خمسة إلى ستة أيام.
وجاءت النتيجة أنّ تردّد الإصابات وشدة الأعراض أصاب بشكل ملحوظ الأشخاص الذين يعانون من صراعات لم تحلّ في علاقاتهم، أما الأشخاص الذين كانوا يحتضنون أحباءهم بشكل متكرّر كانت مناعتهم أقوى، وتمكّنوا من مقاومة الفيروسات والشفاء بصورة أسرع، مما يعني أنّ الدعم الاجتماعي يحمي الأشخاص من آثار الإجهاد والاكتئاب والقلق.
في تجربة، قام الباحثون بتعريض المتطوعين للاستنشاق بفيروسات الزكام والإنفلونزا، وأظهرت النتائج أن الأشخاص الذين كانوا يحتضنون أحباءهم بشكل متكرر قاوموا العدوى بشكل أفضل
ولكن كيف لهذه اللمسات الصغيرة أن تعزّز الجهاز المناعي؟
في دراسة نشرت في عام ٢٠٢٢، قام فريق البحث بقيادة جيسا بيريتز من جامعة رور في بوخوم في ألمانيا، بمحاولة تأكيد تأثير العناق على البشر، إذ أخضعوا الأزواج المشاركين في الدراسة لإجراءات قاسية، فطلبوا منهم بعد معانقة بعضهم البعض وضع أيديهم في ماء مثلج لمدة ثلاث دقائق، ومن ثمّ تصويب نظرهم باستمرار إلى كاميرا كانت ترصدهم، من دون التحدّث إلى الشريك تحت طائلة العقاب في حال مخالفتهم للتعليمات.
أما الهدف من الدراسة فهو الجمع بين الألم الناجم عن البرودة وتقييم وضعهم الاجتماعي، وهذان العاملان، متى اجتمعا يسبّبان الإجهاد بشكل خاص ويزيدان من فرز هورمون الكورتيزول.
كما كان متوقّعًا، ارتفع مستوى الكورتيزول بشكل أقل لدى المشاركين الذين عانقوا بعضهم البعض مقارنة بالأفراد الذين لم يحتضنوا بعضهم قبل الجلسة، خاصة عند السيّدات، إذ افترض الباحثون أن الرجال ربما وجدوا العناق أقل راحة…
هل سألت نفسك كم مرة تَحتضِن أو تُحتضن في اليوم؟
بيّنت الدراسات أنّ الاحتضان يُضفي شعورًا من الراحة والطمأنينة للشخص سواء كان مبادِرًا أو متلقِّيًا، وأن لهذا التأثير قوة أكبر للذين يعانون من الوحدة وللعازبين، وهذا ما بيّنته تجربة أُجريت خلال فترة الحجر الصحي بسبب جائحة كوفيد-19، حيث أظهرت أن أفراد العائلة الواحدة الذين كانوا يحتضنون بعضهم بشكل متكرّر كانت مناعتهم أقوى واستطاعوا تحمّل الحجر بمزاج أفضل.
ويبقى السؤال: هل إذا قررنا العيش كما مات “عشاق فالدارو” سنتمتّع بحياة مليئة بالصحّة البدنية والعقلية؟