"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

اتخاذ القرارات مفتاح الحرية.. ولكن كيف نعرف أنّها صائبة؟

كريستين نمر
الجمعة، 21 أبريل 2023

“أتذكر هذه اللحظة وكأنها البارحة”، تقول مارين، (٤١ عامًا)، مدرّسة مادة الآداب.. “في صباح نهار ذلك الجمعة، وبعد ليلة مروعة قضيتها في تهدئة زوجي المدمن على الكحول الذي كان سلوكه تجاهي مهينًا وعدوانيًا، بدت الأمور تتوضّح. أدركت، فجأة، أنّه لم يعد باستطاعتي التحمّل، فاتخذت قرار الرحيل بصحبة ابني. الغريب يومها، هو أنني على الرغم من خوفي، كنت هادئة جدًا: اتصلت بصديقة لي. ذهبنا إلى مركز الشرطة. وتقدّمت بشكوى ضدّه… لا أستطيع أن أعرف ما الذي حدث لي ودفعني إلـى اتخاذ هذا القرار في ذلك اليوم بالتحديد، كل ما أعرفه هو أنه لم يكن لدي خيار آخر”!

قد يبدو شعور مارين بالخوف طبيعيًا، فبمجرد اتخاذها هذا القرار، اختارت المقامرة والمجازفة بسبر غور المجهول، أليس المجهول مخيفًا خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالمرء نفسه أو بعائلته أو بأحبائه؟

ولكن كيف ومتى يمكن أن تكون قراراتنا حكيمة؟

لقد كتب الفيلسوف شارل بيبين Charles Pépin: “إن فن اتخاذ القرار يتخطّى المعرفة، فالقرار المرتكز على السبب، والمبرّر في مجموعة من جداول Excel، ليس قرارًا: إنه مجرد اختيار، والاختيار يتطلب ذكاء. إنّ اتخاذ القرار قبل كل شيء يتطلب قوة الإرادة. فإذا انتظرنا للتأكد من صحّة خيارنا، فلن نحرّك ساكنًا البتّة “.

وغالبًا ما يفضّل المرء البقاء في دائرة الإزعاج على أن يخطو خطوة قد لا يعرف إلى أين ستوصله.

Lainey Pierre2 2022 Pierre Lainey

يذكر Pierre Lainey عالم النفس والمدرّب ومؤلف كتاب La psychologie de la decision، أن “اتخاذ القرار هو نشاط يومي نقوم به تلقائيًا تقريبًا مثلًا، في الصباح: سترة زرقاء أم سوداء؟ عند الظهر: لحم أو سمك؟ في المساء، اليوم أم غدًا؟“… ويتابع قائلاً: “تتطلب بعض القرارات مزيدًا من التفكير المتعمّق الذي يمكن أن تدعمه أدوات تحليلية متنوّعة. لكننا غالبًا ما ننسى أن أداة اتخاذ القرارات الرئيسية هي الدماغ البشري الذي يتكيّف عند اتخاذ أي قرار من تلقاء نفسه وبشكل جيّد للغاية، إذ، بسبب قدرته على التطوّر، فهو يستطيع اتخاذ أكبر عدد ممكن من القرارات الجيّدة”، وهذا ما يؤكده أيضًا طبيب الأعصاب في مستشفى Pitié- Salpêtrière في باريس، والباحث في معهد الدماغ Raphaël Le Bouc.

ويشرح لو بوك: “بين نصفي الدماغ توجد قشرة الفصّ الجبهي التي ترتبط مباشرة بدائرة المكافأة، والتي تقوم بتقييم خياراتنا ليقوم من بعدها الدماغ بالمقارنة بينها بحيث يزن السلبيات والإيجابيات والاحتمالات والمخاطر والشكّ والندم، ويقوم بتحليلها ليتخّذ بعدها القرار الذي يراه سليمًا”.

يروي لوران، (٣٢ عامًا): “عندما سقطت على أرض الملعب أثناء ممارستي رياضة كرة السلّة، رأيت كاحلي ملتويًا بنسبة ٩٠ درجة، فمن دون أي تفكير أعدته إلى الاتجاه الصحيح. لم يكن الأمر ذكيًا جدًا وفقًا للطبيب الذي عالجني بعد ذلك”.

ما الذي دار في رأس لوران ليقدم على هذه الخطوة؟

يجيب رفاييل لو بوك: “قد لا تكون مداولاته العقلية قد استغرقت أكثر من ربع الثانية، لكنه مما لا شك فيه أنه سعى إلى تخفيف ألمه على حساب جعل الإصابة أسوأ، فهو بذلك وثق بحدسه”.

وهذا ما تؤكده دراسة نُشرت في مجلة Scientific Reports، إذ تشير إلى أنّ “الدماغ يتخذ قراراته لمدة تصل إلى ١١ ثانية قبل أن نكون على علم بها، وأن العين هي أحد المؤشرات الأولى لنشاط الدماغ”.

ولكن هل هذا يعني أن الدماغ معصوم عن الخطأ، فكم من مرّة دفعنا إلى اتخاذ خيارات تبيّن بعد فترة أنها لم تكن لصالحنا، أو فضّلنا اللجوء إلى الطرق المختصرة فاخترنا الربح الفوري على الربح المؤجّل، مع يقيننا أننا لو انتظرنا لربما كانت النتيجة أفضل؟

يجيب رافاييل لو بوك: “إن طرق التفكير المختصرة غالبًا ما تكون مضلّلة إنما بانتظام”.
rapha le boucsmall

                       Raphaël Le Bouc

ويقول بيار لايني: “كلما سلكنا طريق التراخي والقصور في عملية صنع القرار، فلنعلم أنها ستوصلنا إلى أماكن أقلّ جودة، خصوصًا في ما يتعلّق بالقرارات العاطفية، وهذا ما يعتمده أنصار التسويق العصبي الذين يحاولون أن يسحروا أنوفنا بروائح ذكيّة وآذاننا بهواء مفعم بالحيوية، فيحصلون على مرادهم”.

كذلك يحذّر لايني من الغضب الذي قد يدفع المرء إلى اتخاذ قرارات خاطئة، ويقول: “لاستعادة قدراتنا على المراجعة والحصول على أفضل المكافآت، على المديَيْن القصير والطويل، من الضروري التأني، أي قبل اتخاذ أي قرار علينا أن نطرح مجموعة من الأسئلة، مثل: هل نحن متعبون، متوترون، قلقون…؟

يضيف: العاطفة هي دائمًا رسالة تحذيرية يرسلها جسدنا لمساعدتنا على تحديد ما نحتاج إليه، مثل: الاعتراف، أو العزاء، أو التقدير … ثم نقوم بالتقييم الأول بعد تجميع بعض المعلومات عن القرار المُنوى اتخاذه، بعدها يصار إلى تعديل القائمة أو إكمالها كما من غير الخطأ مشاركة شكوكنا أو قناعاتنا الحميمة مع أحبائنا”.

ويعوّل تيار آخر في صحّة اتخاذ القرارات على الحاسة السادسة التي تدّعي الأغلبية أنها تتمتّع بها، بحيث يعتبرها “ثمرة العمليات العقلية والعاطفية غير الواعية إنما المرتبطة بالتجارب التي مرّ بها الإنسان وبالمعلومات التي خزّنها وحفظها”، كما يعتقد هذا التيّار، أنه كلما كان المرء أكثر خبرة في مجال ما، كلما كانت غرائزه أكثر موثوقية: فلاعبو الشطرنج أو الأطباء أو كبار السن على سبيل المثال، قد مروا بمواقف مماثلة بما يكفي لإدراك الخيار الأفضل عن كثب.

وترى جوديث أورلوف، الطبيبة النفسية في جامعة لوس أنجلوس، إن القرارات لتكون صحيحة يجب أن تأتي مصحوبة بردود فعل فيزيولوجية، كاتخاذ نفس عميق مثلًا مصحوبًا بشعور بالدفء، وتقول: “إذا شعرنا أنّ حواسنا في حالة تأهّب خصوصًا حاستيّ السمع والشمّ، فهذا يعني أن قراراتنا قد تكون جيّدة إلى حد ما، على عكس الشعور بالبرد والضغط على الصدر والافتقار للطاقة التي غالبًا ما تكون نذير شؤم”.

طبعًا إن عدم اتخاذ قرار هو أمر مغري، فبهذه الطريقة يحمي المرء نفسه من إحراج الاختيار، فعندما ينتظر المترددون أن يقرّر الآخرون عنهم، فهم في الواقع يتهرّبون من تحمّل عواقب خياراتهم، بسبب خوفهم من تحميلهم لاحقًا المسؤولية، إلا أنهم بذلك يحرمون أنفسهم من.. الحرية.

المقال السابق
كيف تفاعل الشارع المصري مع مسلسل "جعفر العمدة"؟
كريستين نمر

كريستين نمر

محرّرة وكاتبة

مقالات ذات صلة

"مثير للشفقة"… جونسون يروي تفاصيل لقاء مع الأمير هاري

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية