منذ أكثر من عشرة أشهر تشن دولة إسرائيل على قطاع غزة وأهله حربا وحشية غير مسبوقة. ومن دون أي رادع أخلاقي أو قانوني أو سياسي، يرتكب الجيش الإسرائيلي، وبوتيرة يومية، المجازر والفظائع وجرائم الحرب الى حد انّ صحيفة إسرائيلية وصفت ما يحدث بالحرب الأكثر دموية في القرن الحادي والعشرين. صحيح انّ إسرائيل أطلقت هذه الحرب، إثر عملية السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ التي نفذتها حركة حماس حاكمة القطاع منذ العام ٢٠٠٧ وتتحمل تبعا لذلك مسؤولية ما حلّ بالقطاع وأهله وتكون بهذه الحالة الجهة الوحيدة عن الجانب الفلسطيني الواجب اخضاعها للمساءلة والمحاسبة عن تسببها للشعب الفلسطيني بمثل هذه النكبة، لكن الصحيح أيضا انّ السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، وعلى الرغم من مسلسل اضاعفها المزمن على يد كل من حماس واليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو، تبقى هي الجهة الرسمية الوحيدة التي تنطق باسم الشعب الفلسطيني والمؤتمنة على مصيره والمعترف بها على المستوى الدولي. وكان من الطبيعي ومن المنتظر تبعا لذلك وأمام هول ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من مذابح وتدمير، وبالرغم من كل القيود التي تفرضها عليها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ان تنتفض السلطة بكل أجهزتها وكوادرها وقياداتها، وان تستنفر كافة طاقاتها الدبلوماسية والإعلامية والمالية وتُفعِّل شبكة صداقاتها العربية والدولية للعمل على وضع حد للمذبحة التي يتعرض لها شعبها الأعزل. لم تأت ردة فعل السلطة ورئيسها على مستوى فظاعة المأساة التي تشهدها الساحة الفلسطينية لا بل ان افتقارها الى الحد الأدنى من الزحم الذي تتطلّبه فداحة الاحداث جاءت لتعطي بعض الصدقية لرواية فريق نتنياهو المزمنة عن غياب الشريك الفلسطيني من جهة، كما لادعاء حماس عن احقيتها هي في التحدث باسم الشعب الفلسطيني واعتباره يتبنى خيارها العنفي وسيلة وحيدة لخوض الصراع مع إسرائيل وتحصيل الحقوق الوطنية الفلسطينية، من جهة ثانية.
أواسط هذا الشهر (آب) أجرى الرئيس الفلسطيني محمود عباس زيارة سياسية الى روسيا والتقى رئيس الدولة بوتين ثم توجه مباشرة الى تركيا. أتى شكل ومضمون زيارة عباس الى تركيا ليدلّ على تغيّر ما في الدينامية الدبلوماسية الفلسطينية مما يؤشر الى نهاية قريبة لحرب غزة وإلى ان ساعة السياسة قد حانت ومعها هواجس حجز المقاعد على طاولتها وإعادة ترتيب الأدوار السياسية على الساحة الفلسطينية وإعطاء الوجهة التي سيسلكها لاحقا الصراع الاسرائيلي الفلسطيني.
في الشكل تظهّرت زيارة عباس الى تركيا بالامتياز الخاص الذي منح للرئيس الفلسطيني بإلقائه خطابا امام البرلمان التركي وبحضور الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وكان لافتا ارتداء الحاضرين جميعا وشاحا مزينا بالعلمين التركي والفلسطيني كتعبير رمزي لتضامن الامة التركية مع الشعب الفلسطيني. بعد أسبوعين فقط على مقتل زعيم حماس في أحضان الحرس الثوري الإيراني في قلب طهران ويوم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، وبعد أيام قليلة على تعيين يحيى السنوار خلفا لهنية على رأس حماس، تستقبل تركيا -اردوغان وبحفاوة بارزة لا تخلو من الاحتفالية “أبو مازن” الذي لم يخف انتقاده لحركة حماس على مغامراتها العسكرية التي أدت الى كارثة غزة والذي لم يقصّر في دعوة النظام الإيراني للكف عن المتاجرة بالقضية الفلسطينية على حساب إراقة الدم الفلسطيني.
هل في ذلك دلالة على ان اردوغان الواقعي والبراغماتي والحاضن السياسي الأكبر للاخوان المسلمين في العالم يعبّر بهذه الحفاوة لدى استقباله خصم حماس عن ضيقه من ارتماء الحركة في الحضن الإيراني؟ وعن اعترافه او اقتناعه بأن دور حماس إن لم يكن قد انتهى على الساحة الفلسطينية فهو على الأقل أصبح ضعيفا ولا مكان سياسيا له في مرحلة ما بعد الحرب؟ وهل يعمل الزعيم التركي مبكرا على حجز موقع متقدم له كراع سياسي إقليمي للسلطة الفلسطينية في الورشة السياسية الكبرى التي لا بد ستنطلق بقوة فور انتهاء العمليات العسكرية في غزة؟
اما في المضمون فقد أتت المفاجأة من خلال اعلان الرئيس الفلسطيني أمام اردوغان والبرلمان التركي عن عزمه على زيارة قطاع غزة للوقوف على أوضاع القطاع ولمواساة أهلها المفجوعين على رأس وفد من قيادة السلطة وكوادرها معربا عن استعداده للتضحية بحياته من اجل إتمام هذه الزيارة وداعيا امين عام الأمم المتحدة والقادة العرب وأصدقاء فلسطين الى مرافقته الى غزة. يميل المراقب الى عدم واقعية تحقق مثل هذه الفكرة في المدى المنظور بالنظر الى استمرار الاعمال العسكرية في القطاع والتحكم الإسرائيلي بكامل حدود غزة وبالريبة المزمنة لحكومة اليمين الإسرائيلية تجاه السلطة الفلسطينية الشرعية. غير انه يظهر ان إدارة عباس تبدو مصرّة على السير قدما لتحقيق هذه الزيارة مع اعلان وكالة الاعلام الفلسطينية “وفا” بعد أيام على خطاب أبو مازن عن شروع السلطة بإجراء اتصالات مكثفة على المستوى الدولي لتهيئة الأجواء المناسبة للانتقال الى غزة.
بغض النظر عن ترجمتها على ارض الواقع من عدمه فان إعلان عباس عن هذه الزيارة والمباشرة بالاتصالات الدولية تحضيرا لها هو بحد ذاته رسالة سياسية واضحة.
منذ أشهر يعلن عباس في كل مناسبة تتناول اليوم التالي على الحرب عن رفضه المطلق لعودة السلطة الى القطاع على ظهر الدبابات الإسرائيلية مذكِّرا بوحدة الشعب الفلسطيني أينما وجد وبالولاية الشرعية والقانونية للسلطة في غزة كما في الضفة الغربية وبحتمية توليها المسؤولية في القطاع بعد الحرب. بإعلانه من تحت قبة البرلمان التركي وبحضور اردوغان عن نيته زيارة غزة مهما كان الثمن يعلن عباس فعليا ومن قلب “عاصمة الاخوان المسلمين” عن بدء العد العكسي لعودة السلطة الى قطاع غزة بمباركة علنية من تركيا الاردوغانية وبغطاء منها مع إعطاء إعلانه طابعا بطوليا في رفعه تحدي انجاز الزيارة في وجه المحتل الإسرائيلي ولو بكلفة التضحية بنفسه عله بذلك يبعد عن نفسه شبهة التواطؤ مع العدو في العودة الى غزة على جثة حماس.
هل ستسمح الحكومة الإسرائيلية اليمينية بمثل هذه العودة فتساهم خلافا لسياستها التقليدية في إعادة توحيد السلطة بين الضفة والقطاع؟ ام انها ستدير ما تبقى من فترة الحرب على غزة لتوجّه نتائجها بشكل يبقي على الانقسام الفلسطيني بين حماس ضعيفة في غزة وسلطة أضعف في الضفة ودولة فلسطينية نظرية لا افق واقعيا لقيامها الفعلي؟