لم يكن أحد يتوقع في إسرائيل التي تملك شبكة أمنية متطورة، تعتمد فيها على أحدث التقنيات، أن مسلحين من قطاع غزة، يحملون بنادق رشاشة، ويستقلون عربات عادية، يمكن أن ينفذوا هجوما، يتمكنون خلاله من اجتياز السياج الحدودي الفاصل على مستوطنات غلا ف غزة، بعد تعطيل قدرة جيش الاحتلال، الذي يملك أيضا أعتى الأسلحة، وهناك يصولون ويجولون ويقتلون ويأسرون العشرات من المستوطنين والجنود، ويعودون بهم وبعربات عسكرية إسرائيلية إلى غزة.
اجتياز الحدود
تلك العملية العسكرية الأولى من نوعها، التي بدأت قبل شروق شمس يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كان الحديث عنها حتى تنفيذها الفعلي، حلما يراود أي إنسان، أو عملا دراميا فقط، وقد نفذ قبل عدة سنوات، وعرضته فضائية حماس. وحتى بعد مرور أكثر من ساعة على العملية العسكرية التي أطلق عليها الجناح العسكري لحركة حماس اسم «طوفان الأقصى» لم يكن سكان غزة، كما سكان إسرائيل وقادتها العسكريين والأمنيين والسياسيين، لم يكن أحد يصدق أن إطلاق مئات الصواريخ من القطاع دفعة واحدة، تجاه مناطق عدة في إسرائيل، طالت مناطق الغلاف والوسط، هي للتغطية على اقتحام واسع شاركت فيه العديد من الوحدات القتالية التابعة للقسام، وفي مقدمتها «قوات النخبة» للعديد من المستوطنات الإسرائيلية القريبة من الحدود. وقد ظل الخبر الذي تردد على مواقع الأخبار والتواصل الاجتماعي غير مصدق، حتى بثت لقطات مصورة لعناصر القسام وهم يتجولون داخل مستوطنات غلاف غزة، بأسلحتهم وعرباتهم التي اجتازت السياج الأمني، الذي ادعى جيش الاحتلال سابقا أنه الأكثر تحصينا، وهو جدار جرى إنشاؤه بعد حرب إسرائيل ضد غزة صيف 2014 وكان هدفه منع تسلل مقاتلي المقاومة من أنفاق أرضية، وقد بدا أن منظومة الأمن والجيش في إسرائيل، لم تكن تتوقع أن يدفع ذلك مقاتلي حماس، الذين تسللوا في معارك سابقة إلى مناطق الحدود عبر أنفاق هدمها بالجدار الأسمنتي عند إنشائه، أن يدفعهم هذا الأمر للتخطيط لعملية عسكرية كبيرة، تقوم على الاقتحام من فوق الأرض وليس من باطنها. فعليا نجحت حماس وجناحها العسكري في تنفيذ الخطة العسكرية، وبدا أن اقتحام الحدود الذي تدرب عليه مقاتلو حماس، والذي كشف حجم الخديعة الذي مارسته منظومة الأمن والجيش في إسرائيل على سكان الغلاف، بعد أن طمأنوا المستوطنين بامتلاكهم من المعدات والتدريبات ما يمنع ذلك، أن نجاح خطة القسام، كان راجعا لتخطيط عسكري وعمل استخباري وتكنولوجي، عطلت فيه المقاومة قدرات جيش الاحتلال، التي تعتمد على أجهزة الرصد المتطورة في مراقبة الحدود، والتي تشمل أجهزة استشعار وكاميرات مراقبة دقيقة وطائرات تجسس بدون طيار، وذلك بعد أن باغتت بضربتها الأولى القوات الإسرائيلية على الخطوط الأولى، بأن أفقدتها الــقــدرة على العمل، بعد تدمير آلياتها العــسكرية وأبراج المراقبة، وأوقعت جنودها بين قتيل وأسير. علاوة على ذلك، فقد استخدمت حماس تكتيك التمويه على هذا الهجوم الكبير، فحتى قبل أيام قليلة مضت، كانت حماس تقوم بمشاغبة إسرائيل على مناطق الحدود، من خلال فعاليات مقاومة شعبية، رفعت خلالها شعارا بأن هدفها هو تحسين أوضاع السكان المحاصرين، وتخفيف وطأة الحصار، وقد نجح وسطاء التهدئة في إنهاء التوتر، من خلال تخفيف الحصار وإدخال تحسينات اقتصادية لسكان غزة، ووقتها كان الحديث يدور في حال فشل الوساطة، عن إمكانية دخول المقاومة في غزة في تصعيد عسكري محدود، يستمر ليوم أو يومين، لكن أحدا لم يكن يعرف أن جناح حماس العسكري يخطط لهذه العملية العسكرية الكبيرة، والتي يتوقع أن يكون تخطيط تسخين الحدود، داخلا ضمن تكتيك القسام، بإيهام إسرائيل أن أقصى ما يمكن أن تصل إليه هو تصعيد محدود، وليس عملية بهذا الحجم والنوع. وظهر نجاح الضربة الأولى المباغتة، في دفع الكثير من الإسرائيليين القاطنين على مقربة من مناطق الحدود إلى الهرب إلى مناطق الوسط، بعد أن أيقنوا فشل منظومة الجيش والأمن في التصدي لمقاتلي حماس، فيما أغلقت قوات الاحتلال جميع الحواجز العسكرية المحيطة بمدينة القدس المحتلة، خشية من وصول المقاتلين أو تنفيذ عمليات أخرى، وقد أشارت إلى ذلك تقارير عبرية، أعلنت أن الحكومة في تل أبيب تفاجأت بالهجوم، وأن الجيش لم يقم بمهمته، وبما يدلل على ذلك هو ضعف أفراد الجيش، الذين تركوا دباباتهم، في التصدي لنشطاء حماس، عندما اقتحموا الثكنات العسكرية، وأسروا وقتلوا من فيها.
العودة بالأسرى بدون خوف
ما كان لافتا ويدلل على حجم الضرر الذي سببه الهجوم المباغت لعناصر القسام، على مستوطنات غزة، ليس فقط التغطية الصاروخية ولا ما ظهر من مظلات شراعية مزودة بمحركات دفع، حملت نشطاء حماس إلى داخل المستوطنات، ولا حتى في وصولهم إلى داخل المستوطنات بعد القضاء على منظومة الحماية العسكرية والأمنية المحيطة بها، بل كان عودة هؤلاء إلى القطاع، وهم إما يستقلون عربات عسكرية إسرائيلية، أو عرباتهم التي امتلأت بجثث الجنود الإسرائيليين، وبمستوطنين جرى أسرهم من أماكن سكنهم، والتجول بهم بكل أريحية في شوارع غزة، وظهروا وهم مطمئنون أنهم لن يكونوا في مرمى نيران الجيش الإسرائيلي أو صواريخه أو طائراته الحربية، والتي ظلت غائبة عن سماء القطاع لساعات، حتى أن لقطات أظهرت شاحنات عسكرية وهي تحمل طائرات حربية بعيدا عن مناطق الهجوم العسكري للقسام، خشية من الوصول إليها وتدميرها على الأرض. وأظهرت العديد من اللقطات مستوطنين داخل غزة، بعد أن باتوا في قبضة مقاتلي حماس، ونشر الجناح العسكري أيضا لقطات لجنود إسرائيليين لحظة أسرهم من مناطق الحدود، وآخرين بعد التحفظ عليهم في مناطق آمنة، لاستخدامهم كورقة مساومة في صفقة تبادل أسرى مقبلة. وهناك ترجيحات أن حالة السكينة وعدم وجود أي هلع من نشطاء المقاومة، والذين بثوا أيضا لقطات حية ومباشرة للاقتحام الكبير، مرده امتلاكهم قدرات كبيرة، تم خلالها تعطيل قدرات جيش الاحتلال التي تعتمد على التكنولوجيا. هذا وقد أعلن القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف، بعد تنفيذ الهجوم المباغت بدء عملية «طوفان الأقصى» وقال إنها جاءت ردا على جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين واقتحاماته المتكررة للمسجد الأٌقصى، وفي كلمة بثت للضيف عبر وسائل إعلام حماس قال إن الضربة الأولى التي استهدفت مواقع الاحتلال وتحصيناته تجاوزت 5 آلاف صاروخ وقذيفة، وقال «الاحتلال ارتكب مئات المجازر بحق المدنيين، واليوم يتفجر غضب الأقصى، وغضب أمتنا، ومجاهدونا الأبرار، وهذا يومكم لتفهموا العدو أنه قد انتهى زمنه». وأعلن كذلك أن قيادة القسام قررت وضع حد لكل جرائم الاحتلال، وقال «انتهى الوقت الذي يعربد فيه دون محاسب» وقال مخاطبا أفراد القسام «ابدأوا بالزحف الآن نحو فلسطين، ولا تجعلوا حدوداً ولا أنظمة ولا قيودا تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة في تحرير المسجد الأقصى» كما خاطب أهل القدس ومناطق الـ 48 بالقول «أهلنا في القدس اطردوا المحتلين واهدموا، الجدران ويا أهلنا في الداخل والنقب والجليل والمثلث أشعلوا الأرض لهيباً تحت أقدام المحتلين» كذلك دعا الشعوب العربية للتدخل في هذه المعركة، وقال «يا أخوتنا في الجزائر والمغرب والأردن ومصر وباقي الدول العربية، تحركوا ولبّوا النداء».
عملية بتخطيط مسبق
وأعلن أبو عبيدة المتحدث باسم القسام، أن العملية العسكرية التي نفذها نشطاء الجناح العسكري تجري كما هو مخطط لها في كل المحاور، مؤكدا أن نتائج المعركة لم يعلم عنها الاحتلال شيئًا بعد، وقال وهو يشير إلى الكثير الذي يملكه جناحه العسكري «سيصاب (الاحتلال) بالذهول عندما يستفيق من صدمته». وطالب المتحدث العسكري باسم القسام، من نشطاء الضفة الغربية وأهل القدس بالتحرك في كل المحاور تجاه المستوطنات، وكل أماكن تواجد الاحتلال، وقال مخاطبهم «أخرجوا للمشاركة في طوفان الأقصى الذي ما انطلق إلا استجابة لصرخات مرابطينا في الأقصى». كما أعلن الناطق باسم سرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، أبو حمزة، أن بحوزة السرايا العديد من الجنود الإسرائيليين. أما إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، فقال إن عملية «طوفان الأقصى» بدأت من غزة وستمتد للضفة والخارج وكل مكان يتواجد فيه الشعب الفلسطيني، معلنا أن المقاومة الفلسطينية تخوض في هذه اللحظات التاريخية «ملحمة بطولية عنوانها الأقصى ومقدساتنا وأسرانا». وأضاف «لذلك كله نخوض معركة الشرف والمقاومة والكرامة للدفاع عن المسرى والأقصى تحت العنوان الذي أعلنه الأخ القائد العام أبو خالد الضيف طوفان الأقصى» وتابع «إننا على ثقة بأن أمتنا جميعًا من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها وفي كل مكان ستكون جزءًا من معركة الدفاع عن مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن نهيب بكل مسلم في كل مكان وأحرار العالم جميعًا للوقوف في هذه المعركة العادلة في الدفاع عن الأقصى». أما نائب رئيس المكتب السياسي صالح العاروري، فقال «إن عملية طوفان الأقصى، هي معركة تتبير الاحتلال الإسرائيلي، وقد جاءت للرد على جرائمه المستمرة» وطالب نشطاء المقاومة في الضفة الانضمام إلى هذه المعركة، بقوله «إن الضفة الغربية هي كلمة الفصل في هذه المعركة، وتستطيع أن تفتح اشتباكًا مع كل مستوطنات الضفة» وطالب الأمة العربية والإسلامية أن تشارك في معركة «طوفان الأقصى». من جهته قال خالد البطش عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي، معقبا على العملية «إن المقاومة اليوم تقوم بواجباتها وتقرر خوض المعركة بموقف حاسم حتى يفهم الاحتلال الإسرائيلي أن المقدسات لا يمكن التخلي عنها». وأضاف «القضية الفلسطينية برمتها دخلت مرحلة جديدة، وعلى العالم العربي والإسلامي أن يتوقف عن التطبيع وأن يوجه إسناده ودعمه لنا ولشعبنا حتى تنتهي معاناة الفلسطينيين والأمة». ولم يجر الإعلان رسميا عن عدد القتلى في الجانب الإسرائيلي، ولا عدد الجنود والمستوطنين الأسرى الذين تمكن نشطاء حماس من نقلهم إلى قطاع غزة. وإن كانت المعركة التي بدأتها بهذا الشكل لأول مرة المقاومة في غزة، حيث كانت قد اعتادت سابقا على دخول معارك مع جيش الاحتلال، للرد على عمليات اغتيال أو رفضا لإجراءات الحصار والهجوم ضد القدس والأقصى، إلا أن أحد لا يعرف إلى أين ستتجه الأمور في الأيام المقبلة، غير أن الجميع يدرك أن الأمور ذاهبة إلى مربع تصعيد خطير، ربما يتجاوز في قدراته الحربية الحروب السابقة التي شنتها دولة الاحتلال ضد غزة على مدار السنوات الـ 17 الماضية، والتي بدأت فيها حصارها المحكم على غزة.
مآلات الأيام الآتية
وقد بدأت دولة الاحتلال التي أعلنت حالة التأهب القصوى في صفوف جيشها، واستدعت قوات الاحتلال، حربا جديدة ضد غزة، أطلقت عليها اسم «السيوف الحديدية» ويمكن الاستنتاج من هذا استخدام كلمة «السيوف» أن جيش الاحتلال ذاهب لشن هجمات عنيفة ودامية ضد قطاع غزة، توقع من خلالها أعدادا كبيرة من القتلى والضحايا، خاصة وأن أسماء العمليات العسكرية السابقة، كانت تدلل على الخطة العسكرية. هذا واستهل جيش الاحتلال العملية العسكرية بغارات جوية على العديد من المناطق والمنازل والمواقع العسكرية، موقعة العديد من الشهداء كما خلفت دمارا كبيرا في المناطق المستهدفة. وفي هذا السياق، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في أول تعقيب بعد هجوم القسام «نحن في حالة حرب، ولسنا في عملية محدودة، ولا في جولة قصيرة». وأشار إلى أن حماس «شنت هجومًا قاتلًا مفاجئًا ضد دولة إسرائيل وضد مواطنيها» لافتا إلى أنه اجتمع مع رؤساء الأجهزة الأمنية، ووجه التعليمات بـ «تطهير المستوطنات من الإرهابيين الذين تسللوا» وأعلن كذلك أنه أمر بتعبئة احتياطية واسعة النطاق «والرد بقوة ونطاق لم يعرفهما العدو» وأضاف مهددا «سيدفع العدو ثمنًا لم يعرفه من قبل». أما منسق اعمال حكومة الاحتلال، فقال متوعدا «حماس فتحت أبواب الجحيم على قطاع غزة». وتحسبا لأيام عصيبة، قال المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إن مؤسسات العمل الحكومي تراقب تطورات الأوضاع الميدانية، وتتابع عملها في جميع المؤسسات وفق إجراءات خطة الطوارئ الحكومية المعتمدة على صعيد كل مؤسسة، لضمان استمرار خدماتها والقيام بواجبها، وأعلن عن رفع درجة الجهوزية في مختلف المؤسسات الحكومية، وبدء العمل وفق خطة الطوارئ والالتزام بها لضمان تقديم الخدمات للمواطنين، سيما الخدمات الحياتية الأساسية، كما طمأن المواطنين بتوفر مخزون كافي من السلع والمواد الغذائية، وطالب بالاعتماد فقط على المصادر الرسمية والتابعة للمقاومة، وحذر من نشر أية أخبار تهدد تماسك الجبهة الداخلية.
القدس العربي