لم يكن موضوع تقسيم بلاد الشام يومًا جديًّا كما هي عليه حاله في هذه الأيّام. سابقًا كان تطلعًا الى تغيير ضمن الوحدة، لكنّ كل شيء يتغيّر حاليًا، فالمشاعر الوطنية لدى المكونات الطائفية والعرقية تدحرجت الى مستوى خطر للغاية، ويساعدها في ذلك دخول وقح لحكومة بنيامين نتنياهو على الخط، بعدما وجدت في إضعاف جيرانها مصلحة استراتيجية لها. ولعلّ كبير المشجعين على ذلك هو الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي على كثرة ما يفكر عن حلول “من خارج الصندوق” أصبح “خارج الإنتظام”.
قبل ترامب كان مخطط التقسيم على الرف ولا يحن إليه سوى بعض اليائسين من أحوال أوطانهم. بعد ترامب أصبح مشروعا مشتركًا لأقلية ضمن الأقليات تتمتع بالقدرة على التعبير عن تطلعاتها، مدعومة من الحكومة الإسرائيلية!
وبدأت الوقاحة التقسيمية الإسرائيلية، في ذاك اليوم الذي مسك فيه دونالد ترامب القلم، وقال إن إسرائيل أصغر من رأس القلم بالمقارنة مع حجم مكتبه البيضاوي الكبير، ولا بد من مساعدتها على تجاوز ذلك: “مساحة إسرائيل صغيرة على الخريطة بالمقارنة مع جيرانها، ولطالما فكرت كيف يمكن توسيعها”.
فهمت إسرائيل ذلك بأنّه ضوء أخضر لها لتتوسع من جهة ولتصغّر جيرانها من جهة أخرى. وعليه، أطلقت أولى الخطوات العملية لضم الصفة الغربية، بعدما عزلت غزة وقطعت القطاع الى قطاعات متناثرة ومهدمة وغير قابلة للحياة.
وبناء على هذا الفهم، وسعت حماياتها الإستراتيجية بالإستيلاء على أراض لبنانية وعلى أراض سورية، في وقت قدمت فيه نفسها حامية للأقليات في “بلاد الشام” ولا سيما منهم الدروز والأكراد، وأعدت مخططا خاصا بتقسيم سوريا الى صنّاع القرار في واشنطن، وبدأت التسويق له، آخذة في الإعتبار أنّ تداعياته ستشمل لبنان والعراق وتصل حتى الى اليمن “إير السعيد” أبدًا.
لن تجد إسرائيل صعوبة كبرى في ذلك، فمحور الممانعة بقيادة إيران فتح “صندوق باندورا” في السابع من تشرين الأول 2023، فتهاوى ما كان قد بقي من مقوّمات القوة في فلسطين ولبنان وسوريا وحاصرت “الجمهورية الإس لامية” نفسها وتلاشت قدراتها في العراق، وتحوّلت مصر والأردن الى دولتين تناضلان من أجل حماية مكوناتهما الشعبية من دفق الهجرة الفلسطينية، وفق المشتهى الإسرائيلي- الأميركي.
شعوب “بلاد الشام” ليست تقسيمية، بطبيعتها، ولكن تعاقب الطغاة والشموليين عليها، جعلها تفتش عن حلول لحياتها في أمكنة وعرة. بات الإنفصال عن المجموعات “الطاغية” مخرجًا من المأزق. الوحدويون في المقابل لا يقدمون أطروحة مقنعة. بعضهم يخاف من أن يشتبه الأقوياء به، فيكرر كلامًا خشبيًّا، باسم “النهج التاريخي” الذي انقلب عليه، مرات ومرات. وبعضهم الآخر، وهو يتحدث عن الوحدة، يشعرك بأنّه لا يريد سوى فرض طغيانه. مفهوم المواطنية غائب في أروقة الحكم وفي مراكز صناعة القرار. هذه المواطنية التي لا تقوم إلا على العدالة والفرص المتساوية والكفاءة والإنماء المتوازن.
قد يبدو لكثيرين أنّ التقسيم مستحيل، ولكن كما كل ما بدا، في يوم من الأيام، مستحيلا، هو يقف وراء الأبواب ويمكن أن يقفز الى الواجهة، في لحظة لم يستعد لها أحد، خصوصا مع وجود عاملين فعليين على هذا التقسيم في مراكز صناعة القرار في المنطقة، فهؤلاء يبدون، في هذه الأيام، هم الأعداء الحقيقيون لسايكس- بيكو!
وعليه، لا بد من أن يبحث الوحدويون، في حال كانوا كذلك، عن حلول تجعل المخطط التقسيمي في مكان ومصالح المجموعات الطائفية والعرقية في مكان آخر.
الحل متوافر، ولكنه يحتاج الى شجعان وليس الى خطباء!