نلتقي يوميًا بعشرات الأشخاص، فنتذكر ليس فقط أصواتهم ووجوههم إنما رائحتهم أيضًا إذ من دون أن ندري يلتقط أنفنا معلومات عنهم، وهذا ما يعرف بـ “الأنف الاجتماعي”.
بعد أن أُصيبت عالمة الآثار الأميركية كريسي كيلي بفيروس أفقدتها حاسة الشمّ، لم تعد ذاتها بالمعنى الحرفي وا لمجازي على حد سواء. وتقول إنها كانت تشعر بأنها تطفو على سطح الماء، منفصلة عن العالم، لم تستمتع بالحياة ولا بالتواصل مع الطبيعة ولا مع الأحبّاء، “أصبحتُ معزولة اجتماعيًا عاجزة عن احتضان وشمّ رائحة من أحبّ، فقداني لحاسة الشم سبّب لي اضطرابًا عميقًا”، تضيف.
معاناة كريسي كيلي دفعتها إلى تأسيس جمعيتها الخيرية “أبسنت” (الغائب)، بهدف مساعدة الأشخاص الذين فقدوا حاسة الشمّ.
وتؤكد الأبحاث الحديثة أهمية هذه الحاسة في بناء هوية الإنسان وعلاقاته الاجتماعية: فقد كشفت دراسة في العام ٢٠١٦ عن أن الأشخاص الذين يتمتعون بحاسة شمّ جيّدة، يتميّزون بعلاقات اجتماعية غنيّة ومُرضية، ولاحظ الباحثون من خلال استخدامهم لتقنيّة التصوير بالرنين المغناطيسي، أن هناك ترابطًا بين الدوائر الدماغية المشاركة بالشمّ وتلك المتعلّقة بالتفاعل الاجتماعي، أي أن الإنسان قد يستشعر خوف وقلق الشخص الآخر من خلال رائحته.
رائحتنا… هويتنا
تاريخيًا، لم تثر حاسة الشم اهتمامًا كبيرًا من قبل الباحثين، فداروين مثلًا كان يعتبر أنّ هذه الحاسة ليست سوى “إرث من أسلافنا القردة”، وقد يكون سبب هذا الإهمال هو أن الشمّ “يحدث لاإراديًا عند الإنسان” وفقًا لـ بيتينا بوز، عالمة النفس في جام عة دوسلدورف في ألمانيا، وتضيف: “نحن نشمّ الآخرين لنتعرف عليهم بشكل أفضل فبعد مصافحة شخص ما، نشمّ رائحة أيدينا مرة ونصف أكثر من قبل أن نصافحه وكأننا بذلك نحاول أن نتذكّر أننا التقينا به”.
مما لا شك فيه أن من أكثر الروابط المتعلّقة بحاسة الشمّ هي تلك التي تربط الأم بطفلها Developmental Psychobiology فقد أظهرت دراسة نُشرت في مجلة
ان غالبية الأمهات قادرات على التعرف على رائحة أطفالهن بمجرّد البقاء عشر دقائق معهم فقط. وأما بالنسبة للأطفال الرضع، فقد أظهر باحثون فرنسيون من مركز علوم الطعام والحواس في ديجون أن الأطفال حساسون بشكل كبير للجزيئات العطرية التي يفرزها حليب أمهاتهم.
رائحة المشاعر
في دراسة أجريت في العام ٢٠٢٢ في معهد وايزمان للعلوم في باريس، تبيّن أن الأشخاص الذي يتمتعون بروائح متشابهة يشعرون بتقارب أكبر في ما بينهم من الأشخاص ذوي الروائح المختلفة، مما يؤكد النظرية التي تقول بأن الإنسان قادر على استشعار مشاعر الشخص الآخر إذا كان سعيدًا، حزينًا أو قلقًا، عن طريق استنشاق رائحته.
في تجربة أخرى أُجريت في هولندا، قام الباحثون بجمع عَرَق المشاركين الذين كانوا يشاهدون مقاطع فيديو كوميدية، وقاموا بعدها بفحصها ومقارنتها مع الإفرازات الجلدية لمجموعة أخرى من المشاركين الذين كان عليهم تجسيد هذه الفيديوهات، فتبيّن أنّ النساء كنّ حساسات بشكل خاص لروائح الرجال الذين كانوا قلقين أثناء مشاهدتهم وتجسيدهم مقاطع الفيديو.
بالنسبة لـ بيتينا بوز، فإن القلق هو إشارة إلى أن الشخص يمرّ بحالة من الضيق، وهذا ما يفسّر لجوء النساء إلى التصرّف بحذر أكبر عند اكتشاف وجود خطر، واعتمادهن سلوكيات التعاون مع الأضعف.
قد يتوجّب بناءً على ما تقدّم، تقدير الشم كوسيلة حساسة للإدراك، حيث أن هذه الحاسة، على عكس الحواس الأخرى، لا يمكنها خداعنا، “فقد يتمكّن الإنسان من إجبار نفسه على الابتسام حتى عندما لا يكون في حالة نفسية جيّدة، لكنه لا يستطيع تغيير رسائله الكيميائية بشكل متعمّد”، كما تقول بيتينا بوز.
وتبقى قلوبنا وصلواتنا مع هؤلاء الأشخاص الذين حرموا من حاسة الشمّ بعد إصابتهم بفيروس كورونا والمقدّرين بـ ١١،٧٪ في أوروبا لأنهم على ما يبدو قد حرموا من وسيلة مهمة من وسائل التواصل الاجتماعي الطبيعية.