إذا كنت قد عانيت يوماً مشكلة في صحتك العقلية والنفسية، فأنت تعرف تمام المعرفة أنها تجعل أبسط المهام اليومية تبدو مستعصية. هكذا ربما تستنزف النزر اليسير من الطاقة المتبقية لديك في مجرد إجراء مكالمة هاتفية أو إرسال بريد إلكتروني؛ وحتى الأعمال التي تبدو أساسية يمكن أن تتحول مهمات قاهرة. هكذا، تتواطأ هذه الظروف كافة حتى يصير الاستمرار في العمل مشقة شديدة الصعوبة بطبيعة الحال، إذ يبقى محالاً اصطناع الكفاءة والمقدرة فيما تشعر وكأن كل الأفكار داخل رأسك قد أفلتت من عقالها.
يحاول جيل شاب من الموظفين مواجهة هذه المشكلة من طريق تخصيص أيام إجازة من العمل لأسباب تتعلق بـ”الصحة العقلية والنفسية” شأن زملائهم الأكبر سناً الذين يتغيبون عن الوظيفة بسبب الإصابة بنوبة صداع نصفي أو نزلة برد مثلاً. ووفق دراسة جديدة نهضت بها “أنمايند” Unmind المنصة المتخصصة في إنشاء أماكن عمل صحية نفسياً، حصل 49 في المئة من المشاركين على عطلة من العمل بحجة تدهور صحتهم النفسية؛ وارتفعت هذه النسبة حتى 66 في المئة بين أوساط العمال الذين تراوحت أعمارهم بين 16 و25 سنة.
ويسعنا رد الارتفاع المذكور إلى سببين مختلفين تماماً. الأول وجهة النظر الأكثر تفاؤلاً التي تقول إن هذا الارتفاع في العطل المرتبطة بالصحة النفسية يشكل في الواقع خطوة إيجابي ة، وأنه “يعزى إلى وجود وعي أكبر تجاه هذه الاضطرابات وتراجع في وصمة العار المتصلة بمشكلات الصحة النفسية”، كما قال الدكتور نيك تايلور، الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لـ”أنمايند”. أما السبب الثاني فيبدو أكثر إثارة للقلق، إذ يقول إن هذه الزيادة في أعداد الموظفين الذين يلجأون إلى الإجازات النفسية تشكل واحدة من علامات ثقافة العمل المنهارة تماماً، حيث يُشاد بالصحة العقلية باعتبارها “أولوية” ولكنها لا تحظى بأي معالجة حقيقية على الإطلاق.
في المملكة المتحدة، لا تتوافر قوانين منفصلة خاصة بإجازة الصحة النفسية، ولكن أصحاب العمل ملزمون بدعم صحة وسلامة ورفاهية موظفيهم بشكل عام. يتعين عليهم أيضاً إيلاء مشكلات الصحة النفسية ومشكلات الصحة الجسدية القدر عينه من الجدية، وإذا كان يسعنا تصنيف المرض العقلي للموظف على أنه عاهة، بمعنى أنه يترك “تأثيراً سلبياً كبيراً” على حياته ويضر في قدرته على إنجاز الأنشطة اليومية ويُتوقع أن يمتد حتى 12 شهراً على أقل تقدير، يحق له في هذه الحالة الحصول على فترات إجازة أطول بموجب “قانون المساواة” لعام 2010 المعمول به في المملكة المتحدة.
إضافة إلى هذا الشرط الأساسي، شرع عدد من الشركات والمؤسسات في تقديم “أيام عطلة مخصصة للصحة النفسية”، في إجراء تقول الرئيسة التنف يذية والمؤسسة المشاركة لشركة “فليكسا كاريرس” Flexa Careers مولي جونسون جونز إنه “بدأ يصبح أكثر انتشاراً”، ضاربة المثل بشركات مثل العلامة التجارية لبرمجيات خدمات الضيافة “فيتا موجو” Vita Mojo ومنصة البيانات “بروفيليك” Prolific ضمن الشركات التي تقدم أيام الإجازة المخصصة هذه، وذلك على نحو منفصل عن الإجازة المرضية والعطلات المستحقة أصلاً. أحياناً، تصنف على أنها “أيام للتعافي” النفسي، وفي الماضي كانت تسمى “أيام الألحفة” (امتياز مرغوب تمنحه الشركة لموظفيها أو تلطيف فوقي للمرض النفسي؟ لك أن تقرر).
يبدو إجراء جيداً، أليس كذلك؟ من الناحية النظرية نعم ربما. ولكن من شأن الزيادة في عدد الموظفين الذين يأخذون إجازة لأسباب تتعلق بالصحة العقلية والنفسية أن تزيد الطين بلة على مستويات عدة، من خلال تجاهل علامات الخطر في مكان العمل التي تسهم في ظهور حالات صحية نفسية مستشرية، وربما تفاقم الضغوط على زملائهم العاملين المتروكين لإنجاز الأعمال المهملة.
في الحقيقة، لا تعود أيام الإجازة المخصصة للصحة العقلية والنفسية “سوى بفائدة محدودة إذ أخذها الموظفون عند بلوغهم نقطة الانهيار”، كما يقول جونسون-جونز من “فليكسا كاريرس” موضحاً أن الفرق شاسع بين أخذ يوم إجازة نفسية كتدبير استباقي بمجرد أن تشعر أنك تقاسي الأمرين، وبين أن تجد نفسك مجبراً على التراجع عن العمل لأنك قد وطأت حافة الانهيار. ومن الصعب ألا نتساءل في هذا السياق عما إذا كانت أيام الصحة النفسية مجرد جزء آخر من ثقافة تشجعنا على اتباع سلوكيات “العناية بالنفس” من أجل صرف الانتباه عن مشكلات كامنة ربما تكون ذات تأثير فعلي. الإجراءات الاستباقية جديرة بالثناء، ولكن على الأرجح تسهم التدابير التي تُتخذ كرد فعل في نشوء الحلقة المفرغة التالية: إرهاق، وأخذ إجازة، ثم العودة إلى مزيد من المسؤوليات، وهكذا المرة تلو الأخرى”.
في عالم العمل، ربما نبدو إزاء برنامج للموارد البشرية يقدم، مثلاً، دروساً في اليوغا في منتصف النهار أو يتيح الوصول المجاني إلى تطبيق إلكتروني متخصص بالتأمل الواعي، علماً أنه في الحقيقة أي أحد من الموظفين هناك لا يملك الوقت الكافي لفعل أي أمر آخر غير الاندفاع المذعور إلى أقرب متجر من “بريت”Pret لبيع الشطائر خلال استراحة الغداء. تقول إيما باري، بروفيسورة في “كلية كرانفيلد للإدارة” “إن توفير أيام إجازة خاصة بالصحة النفسية، إضافة إلى الأنشطة الصحية الأخرى… يمكن أن يشكل جزءاً من استراتيجية إيجابية خاصة بالصحة النفسية، ولكن لا ينبغي أن يكون بديلاً عن الدعم الجيد. في الغالب، نرى أصحاب العمل يركزون على هذه الأنشطة التي تكون أحيانا تحايلية وبراقة من دون معالجة جذور مشكلات العافية داخل مؤسساتهم”.
شأن “الغسل الأخضر”، أي تسويق العلامة التجارية نفسها على أنها أكثر صداقة للبيئة مما هي عليه في الواقع لتحقيق [شكل من التحيز] يسمى “تأثير الهالة”، نشهد في أماكن عملنا الآن ظاهرة مماثلة متصلة بالموارد البشرية تتمثل في “غسل الرفاهية” النفسية. تبدو كثير من أماكن العمل بارعة في الإقناع عندما يتعلق الأمر بثقافة الشركة وسياسات الصحة العقلية والنفسية، ولكن في الغالب تفصل فجوة كبيرة بين واقع الأمر ومظهره.
ويشير الدكتور منصور سومرو، كبير المحاضرين في إدارة الأعمال الدولية في “جامعة تيسايد” في إنجلترا إلى وجود “قطيعة تفصل بين ما يحدث على أرض الواقع وبين السياسات المعمول بها”.
في العام الماضي، وجدت دراسة اضطلعت بها شركة “كلارو ويلبينغ” Claro Wellbeing أنه على رغم أن 71 في المئة من المؤسسات تشارك في مبادرات التوعية بالصحة العقلية والنفسية، فإن 36 في المئة منها فقط قدمت فعلاً فوائد صحة نفسية “جيدة” أو “ممتازة” لموظفيها، وفق كلام الموظفين أنفسهم. ولن تُلام أيضاً إذا تساءلت عما إذا كان من الأفضل إنفاق جزء من الميزانية، المخصصة للممارسات الشائعة الآن مثل “برامج مساعدة الموظفين”، على تعيين أعداد أكبر من الموظفين كي يتحملوا عبء ضغوط العمل، أو كي يحلوا محل الموظفين خلال الإجا زة السنوية، والتأكد من عدم تمضية الإجازات خلسة في تحديث تطبيق “سلاك” [برنامج للرسائل مصمم لتسهيل التواصل بين مجموعات العمل المختلفة في الشركات وتحسين سير العمل للموظفين بها، سواء كانوا داخل الشركة نفسها أو يعملون عن بُعد].
كذلك تشير كيت وود، مديرة المشروع التجريبي للصحة العقلية والنفسية والإنتاجية في “جامعة ديربي” و”مركز صحة العمل”، إلى المخاوف التي تساور كثير من الموظفين بشأن السرية عند الاستفادة من بعض مبادرات الصحة العقلية والنفسية. وتعرب عن قلقها من جعل هذه المسألة أشبه بإجراء “ضع علامة في الخانة المناسبة”، الذي تقدمه الشركات فقط كإجراء صوري، بدلاً من توفير تقديمات تناسب الحاجات المحددة لموظفيها. وتضيف: “نجد أنه في تسع مرات من أصل 10 مرات لا تُستغل هذه الإجازة بالشكل الكافي، وأن الموظفين لن يستنجدوا بها خوفاً من [غياب] السرية، ومن استعمالها كمعلومات مرجعية عنهم، ولأنها ليست النوع الصحيح من الدعم”.
كذلك تنطوي الإجازات النفسية لمن يحتاجون إليها على تأثير غير مقصود يتمثل في زيادة الضغوط على الموظفين المجهدين والمثقلين بالأعباء أصلاً. “أين الدعم المستمر لهؤلاء الأشخاص الذين قد يتحملون الكثير [باعتبارهم جهات اتصال بشأن الصحة النفسية]؟” يتساءل وود، مشيراً إلى أن المسؤولين في الإدارة الوسطى ربما يشعرون بأنهم “محصورون بين مطالب الإدارة العليا من جهة، والضغط الممارس عليهم من فريقهم من جهة أخرى”. وفي أسوأ السيناريوهات، ربما يؤدي العبء الأكبر الناجم عن تعويض التقصير الذي خلفه الزملاء الغائبون إلى تفاقم الاستياء أيضاً، ما يعزز الوصمة الملازمة حتى الآن لكل ما له علاقة بالصحة النفسية. وفق الروايات، يتحدث رؤساء عن أنهم يجدون نفسهم مكرهين في موقف صعب يتمثل في الاضطرار إلى الموازنة بين رفاهية موظفيهم الغائبين من جهة، وبين الصحة النفسية لفريقهم المتبقي من جهة أخرى. حتى أن هؤلاء الرؤساء أنفسهم ربما لا يكونون في وضع جيد أو مدربين بشكل مناسب للتعامل مع هذه المواقف الحساسة أيضاً.
في هذا الصدد، تقول مستشارة العلاقات العامة بيلي دي ويليامز إنها اعتادت أن تأخذ “إجازات مرضية لأسباب متصلة بالصحة العقلية والنفسية فقط في أوقات الأزمات النفسية المطبقة، ولكن تبين أن هذه الإجازات تسبب دائماً قدراً أكبر من التوتر مما لو كنت قد ذهبت إلى العمل ببساطة”. وتقول إن أحد المديرين وهو شخص حسن النية إنما مشكك، كان يشعر بقلق شديد عندما تتغيب عن العمل ليوم من أجل صحتها العقلية والنفسية، إلى أنه كان “يطمئن” عنها طيلة اليوم عبر البريد الإلكتروني والرسائل النصية”. وفي نهاية المطاف، كما تقول، “تعلمت أنه من الأسهل كثيراً الكذب والادعاء أنني مصابة بالصداع النصفي”.
مؤكد أن الاعتماد المفرط على أيام الإجازة المخصصة يبدو أيضاً أشبه بضمادة وُضعت فوق جرح على عجل بغرض صرف الانتباه عن مشكلات هيكلية صارخة، ناهيك عن المبالغة في تبسيط اضطرابات الصحة العقلية والنفسية المعقدة والمتنوعة إلى حد كبير.
عالمة السلوك الدكتورة ألكسندرا دوبرا-كيل، مديرة قسم الابتكار والاستراتيجية في مؤسسة “بيهايف”Behave للاستشارات السلوكية، تقول في هذا الصدد: “لنفترض أنك ذهبت في تلك الإجازة، ثم عدت إلى العمل، وإن لم تكن قد عالجت المشكلة… ستتعرض مجدداً لنفس عوامل التوتر. ستعود إلى نقطة الصفر على الأرجح”.
في الوقت الحالي، يبدو أن أيام الإجازة النفسية مفهوم حسن النية ولكنه في نهاية المطاف مشوش، بل مضلل. ومرد ذلك إلى أنه يسمح لإدارات الموارد البشرية بالتدليل على مدى فهمها لموظفيها، مع احتمال نقل المزيد من الضغط إلى المديرين والعاملين على المدى الطويل. لا ريب أنها ليست علاجاً سحرياً، تقول وود متابعة: “أعتقد عموماً بوجود كثير من النوايا والمبادرات الطيبة، ولكنها تحتاج فعلاً إلى نشرها ودعمها عملياً”، وإلا فإنها تصبح “لفتة رمزية فعلاً… إنها مجرد تعثرات”.
هل في المتناول طريقة ما للخروج من أسر هذه الحلقة المغلقة؟ نعم ربما تتوافر طريقة ما، ولكنها تتطلب جهداً طويلاً وشاقاً وبطيء التقدم لتغيير الثقافة المتأصلة، عوض اللجوء إلى سياسات براقة ومكلفة، يقول تايلور مضيفاً أن “وجود قيادة عليا تتمتع بالشفافية والانفتاح بشأن صحة الناس العقلية والنفسية ورفاههم، من شأنه أن يشكل أداة “قوية جداً”. وتوافقه الرأي الدكتورة دوبرا-كيل قائلة: “تعود بنا هذه المسألة إلى فكرة الانتماء. عندما نذهب إلى المكتب ونتواصل مع بعضنا البعض، نكون إزاء تواصل وظيفي جداً. ونحن بحاجة إلى ذلك المستوى الأكثر عمقاً من التواصل”.
إذا كنت تكابد مشاعر ضيق وعزلة، أو أن تواجه الأمرين كي تتحمل ظروفك، في مقدورك الحصول على الدعم من منظمة “ذا ساماريتانز” The Samaritans الدعم كله؛ عبر التحدث إلى شخص خبير مجاناً عبر الهاتف، وبكل سرية، على الرقم 116 123 (المملكة المتحدة وجمهورية إيرلندا)، أو إرسال بريد إلكتروني إلى jo@samaritans.org، أو زيارة الموقع الإلكتروني لمنظمة “ذا ساماريتانز” بحثاً عن تفاصيل حول الفرع الأقرب إليك.
وإذا كنت مقيماً في الولايات المتحدة الأميركية، وتحتاج أنت أو أي من معارفك إلى مساعدة في الصحة العقلية والنفسية الآن، اتصل بخط المساعدة الوطني المخصص لمساعدة الأفراد على تفادي الانتحار وهو 1-800-273-TALK (8255). إنه خط هاتفي مباشر ومجاني وسري للأزمات النفسية، ومتاح للجميع على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع.