شلّت الأزمة الاقتصادية التي يشهدها لبنان منذ العام 2019 عمل المؤسسات العامّة بشكل تدريجي، وبات القطاع ا لعام وموظّفيه من الفئات الأكثر تضررا من الأزمة، نتيجة فقدان العملة اللبنانيّة أكثر من 90% من قيمتها وتدهور قيمة الميزانية العامّة.
ونجم عن هذا الوضع أزمة غلاء معيشي نتيجة فقدان الرواتب لقيمتها والتضخّم المفرط الذي من
المُتوقّع أن يبلغ معدّل 178% في العام 2022.
وقد طالت هذه الأزمة المؤسسات الأمنية بحيث ارتفعت أعداد الهروب من السلك العسكري والتغيّب عن الخدمة، ممّا أثار مخاوف على الاستقرار الأمني في البلد واستمرارية ما تبقى من هيكل الدولة.
ارتفعت أعداد الهروب من السلك العسكري والتغيّب عن الخدمة، ممّا أثار مخاوف على الاستقرار الأمني في البلد
وفي هذا السياق، كثُرت التحليلات والمقالات التي تناولت موضوع اضمحلال الدولة في لبنان مع ضعف مؤسسات إنفاذ القانون فيها نتيجة الأزمة السياسيّة-الاقتصاديّة المتعدّدة الأبعاد التي يمرّ بها البلد، إلّا أنّه لا يمكن الكلام عن الاضمحلال من دون توصيف هذه الحالة بدقّة: هل هو ببساطة تقهقر وتباطؤ تدريجي لعمل المؤسسات أو تلاشٍ لهيكليتها؟ هل هو تحوّل وإعادة تعريف بدور تلك المؤسسات وتركيبتها التي عرفتها منذ نهاية الحرب الأهليّة اللبنانيّة؟
لا يمكن الجواب عن هذه الأسئلة وتقييم وضع القطاع الأمني بدقّة من دون التطرّق إلى مسار تطوّر مؤسّساته، منذ نهاية الحرب اللبنانية العام 1990 وتفاعل هذا المسار مع تاريخ لبنان السياسي.
حوّل الوجود السوري في لبنان النظام السياسي إلى نظام هجين يجمع ما بين التوافقيّة بالشكل والنصوص والقمع البعثي بالنهج والممارسة
في الواقع، تزامنت إعادة هيكلة وتوحيد المؤسسات الأمنية اللبنانيّة بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة مع أحداث لها وقعها في التاريخ السياسي اللبناني، وقد أثّرت تلك الأح داث على القرار الأمني وعلى تركيبة المؤسسات الأمنية الّتي عرفها لبنان منذ نهاية الحرب. وبإمكاننا فصل تاريخ القطاع الأمني منذ انتهاء الحرب إلى حقبتين: حقبة الوصاية السورية على لبنان (1990 – 2005) من جهة والمرحلة التي تلت الخروج السوري منذ العام 2005 من جهة أخرى.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن تاريخ القطاع الأمني ومؤسساته، لم يشكّل موضع اهتمام عدد كافٍ من التحليلات والدراسات، وبخاصة ما يتعلّق بفترة الوجود السوري في لبنان. واقتصرت معظم الأعمال ذات الصلة على دراسات مرتبطة بالجيش وما يعرف “بالعلاقات المدنية-العسكرية”، والتي غالبا ما تُموّل من قبل الجهات المانحة الغربية التي لها مشاريع في مجال إصلاح القطاع الأمني.
إنّ هدف هذا المقال هو تسليط الضوء على التحولات الذي شهدها قطاع الأمن خلال فترة الوجود السوري في لبنان والتي أثّرت إلى حدّ كبير على تركيبته الحالية.
انعكس النهج السياسي-الأمني الذي ساد خلال فترة الوصاية السورية على بنية القطاع الأمني اللبناني
الوجود السوري في لبنان وممارسة السياسة عبر الأمن
شكّلت فترة ما بعد الحرب حقبة مفصليّة في الحياة السياسيّ ة اللبنانيّة وفي تكوين الهيكل الأمني اللبناني.
وتزامنت في تلك الفترة ثلاثة أحداث محوريّة قولَبَت العلاقة بين السياسة والأمن في لبنان: تكريس الوصاية السورية على لبنان من جهة وترسيخ النظام التوافقي عبر اتفاق الطائف من جهة ثانية وإعادة توحيد وهيكَلَة المؤسسات الأمنية من جهة ثالثة.
وقد حوّل الوجود السوري في لبنان النظام السياسي إلى نظام هجين يجمع ما بين التوافقيّة بالشكل والنصوص والقمع البعثي بالنهج والممارسة، كما أخفى وجود سوريا في لبنان شوائب النظام التوافقي على صعيد اتّخاذ القرار، إذ كانت الكلمة الأخيرة تعود لدمشق التي كانت تلعب دور الوسيط والميسّر لصراعات السلطة عبر هيمنتها وفائض القوّة التي كانت تتمتّع به في لبنان. وقد شكّلت قبضة سوريا المخابراتية والعسكرية على لبنان أداة أساسيّة لهيمنتها على الحياة السياسية اللبنانيّة، كما تمكّنت سوريا من السيطرة على أوصال الحياة السياسيّة اللبنانيّة عبر اعتمادها على علاقتها بشبكة من الحلفاء اللبنانيين وعبر تسخير الخلافات الداخليّة لصالحها. واتّسمت الممارسة السياسيّة في تلك الفترة بنقل القرار السياسي إلى خارج المؤسسات الدستورية، وأتت “الترويكا” كنتيجة لهذا النهج، ولحق تلك الظاهرة عسكرة للحياة السياسيّة اللبنانيّة عبر تعزيز الدور السياسي لمجموعة من الضباّط “الموالين” لسوريا الّذين شغلوا مناصب سياسيّة ومراكز عسكريّة أساسيّة. وعُرف لاحقًا هذا التقاطع السياسي– الأمني على صعيد اتّخاذ القرار “بالنّظام الأمني السوري-اللبناني المُشترك”.
عسكر النظام السوري الحياة السياسيّة اللبنانيّة عبر تعزيز الدور السياسي لمجموعة من الضباّط “الموالين” له ممّن شغلوا مناصب سياسيّة ومراكز عسكريّة أساسيّة
ولم تُخفِ سوريا اهتمامها بالتحكّم بالقرار الأمني في لبنان الذي كان ركيزة أساسية لنهجها السياسي، وترجمت هذه النيّة عبر الممارسات السياسيّة وعبر نصوص قانونيّة أعطت، إلى حد ما، إطارًا قانونيًّا لدور سوريا المُتضخّم في مجال الأمن في لبنان. وقد أمّنت “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق” بين الجمهورية العربية السورية والجمهورية اللبنانية (أيّار 1991) التي حدّدت مجالات التعاون والتنسيق في مختلف القطاعات الأمنية والاقتصادية والثقافية بين البلدين، بالإضافة إلى اتفاق الطائف، الغطاء القانوني لهيمنة سوريا على لبنان.
ونصّت تلك المعاهدة على ضرورة توقيع اتفاقيات ثنائيّة لتحديد آليات التنسيق لكلّ من مجالات التعاون المذكورة. وكانت “اتفاقيّة الدفاع والأمن” بين الجمهورية اللبنانية والجمهورية العربية السورية (أيلول 1991) أوّل اتفاقية ثنائيّة تُعقد في إطار معاهدة “الأخوة” مما يؤكّد على محوريّة التنسيق الأمني في تلك الفترة. وحدّدت هذه الاتفاقية آليات التنسيق الأمني على صعيد قيادات البلدين السياسية والأمنية، ونصّت على تبادل المعلومات المتعلّقة “بكل قضايا الأمن”. ومن المُلفت أن الاتفاقية شاملة ولكن غير دقيقة، وغالبا ما يُستعمل النّص القانوني الفضفاض لصالح “الأخ” الأقوى الذي يفرض تفسير البنود، إذا ما أراد تنفيذها.
فترة الوجود السوري في لبنان أثّرت إلى حدّ كبير على تركيبة القطاع الأمني اللبناني الحالية
انعكس النهج السياسي-الأمني الذي ساد خلال فترة الوصاية السورية على بنية القطاع الأمني اللبناني الذي كان يخوض إعادة هيكلة في فترة ما بعد الحرب، فشهدت أبرز الأجهزة الأمنية التي تُعنى بالعمل الاستخباراتي، كمديريّة المخابرات في الجيش اللبناني والمديريّة العامّة للأمن العام إعادة هيكلة (في 1991 و1998 ) وتطوير لعملها الذي يحمل بُعدًا سياسيًّا، إلّا أن هذا التطور لم يلحق بالقطعات الأمنية الأخرى، كقوى الأمن الداخلي، التي بقيت قدراتها محدودة خلال فترة الوصاية السورية على لبنان. وظلّت معظم ميزانيات الأجهزة الأمنية مخصّصة لرواتب وتقديمات عناصرها، في حين لم تكن تحظى تلك المؤسسات بأيّ دعم خارجي لتعزيز احترافيّتها وتطوير قدراتها العملانيّة.
إلّا أن وضع الأمن وتفاعله مع السياسة لم يبقَ على حاله بعد انتهاء فترة الوصاية السورية على لبنان بحيث شهد القطاع الأمني تغيّرات جذريّة منذ العام 2005…
( يتبع)