تغيّر ت معالم القطاع الأمني اللبناني بعد نهاية الحرب مع إعادة هيكلته التي تزامنت مع تكريس الوصاية السورية على لبنان من جهة، وترسيخ النظام التوافقي عبر اتفاق الطائف من جهة ثانية. وقد تطرّقنا في مقالنا السابق إلى تأثير الوصاية السورية على تركيبة القطاع الأمني اللبناني في فترة ما بعد الحرب، باعتبار أن إعادة هيكلة المؤسَّسات الأمنية جرت في فترة هيمنة سوريا على القرار السياسي-الأمني اللبناني. وبالإضافة إلى تأثير العامل السوري على قطاع الأمن، أثّر النظام السياسي الذي تمّ إرساؤه بعد الحرب على آليات اتخاذ القرار الأمني وعلى تركيبة مؤسساته.
أحدثت التعديلات الدستورية التي انبثقت عن وثيقة الوفاق الوطني (أي اتفاق الطائف) تغييرات في النظام السياسي اللبناني عبر تكريسها الت وافقية. ومن أبرز التحوّلات التي نتجت من التعديل الدستوري إناطة مجلس الوزراء بالسلطة الإجرائية وفقًا للمادّة 17 من الدستور. ومع تعديل هذه المادّة، نُقِلَت صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء، حيث تُوزّع الحقائب مناصفة بين المسلمين والمسحيين ويرسو التوازن بين الطوائف - استنادًا إلى المادة 95 من الدستور وإلى تأويلات مُبهمة ومتضاربة لمفهوم “الوفاق الوطني”.
النظام الحالي في لبنان هو في واقعه نظامٌ ميليشياوي -طائفي قائم على تفاهمٍ بين النخب الأوليغارشية
وإنْ كان نظام ما بعد الحرب أقرب إلى التوافقية في النصوص، إلَّا أنَّ عددًا من الكتّاب، كإليزابيت بيكارد ومارون إدّه، اعتبروا أنَّ النظام الذي ترسّخ هو في الواقع نظامٌ ميليشياوي-طائفي-جديد قائم على تفاهمٍ بين النخب الأوليغارشية التي كانت تتمتّع بالتمثيل الطائفي آنذاك.
واتّسم هذا النظام بنهج سياسي تصادمي أدّى إلى شللٍ مزمن في اتّخاذ القرار، تُرجِم بفتراتٍ طويلة ومتكرّرة من الفراغ في السلطة التنفيذيّة - والبلد يمرّ اليوم بواحدةٍ من هذه الأزمات.
ولم ينحصر نهج إشراك جميع الطوائف بالتوزير وبمناصب الفئة الأولى، كما نصّت المادة 95 من الدستور، بل عُمِّمت الممارسة التوافقية-الطائفية على مستويات القطاع العام كافةً. وبحسب هذه النظرة إلى واقع النظام السياسي، فإنَّ توزيع المراكز في جميع فئات الإدارة العامة وفقًا للاعتبارات الطائفية ما هو في الحقيقة إلا غطاء للزبائنيّة السياسية.
توزيع المراكز في جميع فئات الإدارة العامة وفقًا للاعتبارات الطائفية ما هو إلا غطاء للزبائنيّة السياسيّة
وقد انعكست التوافقية-الطائفية على تركيبة المؤسَّسات الأمنية أيضًا. وقد تكون إعادة الهيكلة التي شهدتها مؤسَّسة قوى الأمن الداخلي في تلك الفترة النموذج الأبرز والأوضح لتأثير النهج السياسي في فترة ما بعد الحرب على تركيبة المؤسَّسات الأمنية. نطرح في هذا المقال قراءةً سياسيّة لأهمّ التحوّلات التنظيمية التي شهدتها مؤسَّسة قوى الأمن الداخلي بعد الحرب، باعتبارها نموذجًا للنهج التوافقي-الطائفي الذي ساد وتمأسَس في القطاع العام بعد الحرب.
اعتُمِدَ تنظيمٌ جديد لمؤسَّسة قوى الأمن الداخلي في آواخر الحرب اللبنانية مع صدور القانون رقم 17 في 6 أيلول 1990. وحتى هذا التاريخ، نظّم المرسوم الاشتراعي رقم 54 الصادر في 5 آب 1967 مؤسَّسة قوى الأمن الداخلي (باستثناء فترة وجيزة امتدّت من أيلول 1983 إلى آذار 1985، حيث تم اعتماد المرسوم الاشتراعي رقم 103 الصادر في 5 أيلول 1983 قبل إعادة اعتماد المرسوم 54). وفقًا للمرسوم 54، لم تضمّ مؤسَّسة قوى الأمن الداخلي إلّا أربع وحدات – الدرك وشرطة بيروت والشرطة القضائية والمعهد - بالإضافة إلى المديرية العامّة والمفتشية العامّة. وانطلاقًا من هذا المرسوم الاشتراعي أيضًا، تألّف مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي من 5 أعضاء هم: المدير العام لقوى الأمن الداخلي، والمفتّش العام، وقائد وحدة يُعيّن من قبل وزارة الداخلية لمدّة لا تزيد عن سنتين للأمور التي تعني أكثر من وحدة، وضابطان من الجيش ينتدبهما وزير الدفاع بناءً على اقتراح قائد الجيش ويعيّنهما وزير الداخلية لمدّة لا تزيد عن سنتين (المادة 54). ونصّ المرسوم الاشتراعي على وجوب اتخاذ القرارات بأكثرية أربعة أصوات (المادة 143)، مع الإشارة إلى أنَّ غالبية القرارات التي يُعنى بها مجلس القيادة تتعلّق بشروط تطويع العناصر وترقيتهم وتشكيلاتهم داخل المؤسَّسة.
تحوّل مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي بفعل النهج السياسي إلى مجلس وزراء مصغّر تتمثّل فيه الطوائف كلّها
سنة 1990 صدر القانون رقم 17 الذي عدّل هيكلية المؤسَّسة، فأنشأ 5 وحدات جديدة أُضِيفت إلى مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي. وبات المجلس يضمّ 11 عضوًا: المدير العام الذي يرأسه وعشر قادة وحدات. ونشأ عُرفٌ في التوزيع الطائفي لقيادة الوحدات، إذ نُسبت قيادة كل وحدة إلى طائفة محدّدة، تماشيًا مع الممارسة التي سادت في المؤسَّسات العامة آنذاك.
ولا يمكن فصل إعادة الهيكلة التي شهدتها مؤسَّسة قوى الأمن الداخلي عن الجو السياسي العام الذي سيطر في تلك الفترة، ما يُحتّم علينا مقاربة النّص القانوني من منظور سياقه السياسي.
من هنا، وبعيدًا عن النيات التحديثية، هدف إنشاء وحدات جديدة إلى إشراك ممثلي الطوائف في عملية اتخاذ القرار في المؤسَّسة. وكما كرّست الممارسة السياسيّة نهج التوزيع الطائفي ضمن مجلس الوزراء، تحوّل مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي بفعل النهج نفسه، إلى مجلس وزراء مصغّر تتمثّل فيه الطوائف كلّها، ويجتمع بنصاب 8 أعضاء، ويصوّت على جزءٍ من القرارات بالأكثرية المتمثلة بثمانية أعضاء أيضًا، ويأخذ جزءًا آخر من القرارات بالإجماع. وكما كانت الحال في مجلس الوزراء الذي أصيب بالشلل المرّة تلو الأخرى، لربما تكون قد ولّدت الممارسة السياسيّة في مجلس القيادة أزمة اتخاذ قرار في حالاتٍ عدّة. وقد تكون التركيبة التوافقيّة لمجلس قيادة قوى الأمن الداخلي عاملًا في إبطاء عمل المؤسَّسة وتأخيره. فمنذ العام 2004 على سبيل المثال، استُبدِلَت أوامر نقل الضباط التي تؤخذ قانونًا على مستوى مجلس القيادة بأوامر فصلٍ صادرةٍ عن المدير العام – وهو إجراءٌ يجب أن يكون مؤقتًا من حيث المبدأ لاستحالة اتخاذ القرار في مجلس القيادة.
انعكست التوافقية-الطائفية على تركيبة المؤسَّسات الأمنية أيضًا
وإذا كنّا قد استخدمنا في هذا المقال نموذج مؤسَّسة قوى الأمن الداخلي مثالًا على الطرح، فهذا لا يعني أنَّها تشكّل حالةً استثنائية منفردة. فممارساتٌ مشابهةٌ كثيرة طالت مؤسَّسات عامة أخرى مع سيطرة النّهج التوافقي-الطائفي-التعطيلي على مفاصل الدولة اللبنانية بعد الحرب…