"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث
تابعونافلاش نيوز

عن الحشاشين… تقاطع الروايات والتاريخ

الرصد
الأحد، 31 مارس 2024

عن الحشاشين… تقاطع الروايات والتاريخ

د. مدى الفاتح

لم أتابع مسلسل «الحشاشين»، الذي يعرض حالياً ضمن الدراما الرمضانية، ولذلك فإن هذا المقال لا يدخل في إطار تقييمه، وإن كان تأثر بالنقاشات، التي أفرزها هذا العمل الفريد من نوعه، الذي أنتج بالفعل عشرات المنشورات والمقالات، التي تمحورت حول حبكته ومدى تمثيلها للتاريخ.

لعصرنا الرقمي الذي نعيشه حساباته، فإثارة الجدل تحقق في ذاتها نوعاً من النجاح، وكما يقول خبراء الإعلام الجديد، فإن أي مشاركة أو تعليق حول أي محتوى، ولو كانت متنمرة أو ناقدة، تصب في مصلحته، لأن مقياس النجاح في عالم اليوم هو الرواج والتفاعل. القليل من المتابعين لديهم اطلاع على الفترة الزمانية، التي يحكي عنها المسلسل، لكن اختيار المخرج للعامية المصرية كلغة للحوار، وإصراره عليها بداية من العنوان، «الحشاشين»، دفع للتساؤل حول مدى واقعية هذا العمل التاريخي. اللهجة المصرية توحي بأن هناك «تصرفاً» في القصة، ومحاولة لجعلها أقرب للمتلقي، وهو أسلوب كان اتبعه من قبل المخرج يوسف شاهين، حين حوّل حياة الفيلسوف ابن رشد إلى فانتازيا في فيلمه الشهير «المصير». الفيلم الذي أضيف له الكثير من «التوابل» لجوهر القصة ولسيرة الرجل.

التصرف ليس شيئاً غريباً حينما يتعلق الأمر بدراما الرواية التاريخية، وهو ملاحظ بنسب مختلفة، حتى في الأعمال التي نالت شهرة وصيتاً عالميين. في مثل هذه الأعمال يكون في الغالب لدى المؤلف أو المخرج وجهة نظر يسعى لإيصالها عبر عمله، أو بمحاولة خلق نوع من الإسقاط، الذي يدفع للمقارنة مع الواقع. هذا الإسقاط هو ما يدفع لاختيار حقبة تاريخية دون غيرها وشخصية ما دون سواها. تصويب السهام تجاه منتجي هذا النوع من الدراما، يجب أن لا ينسينا أن الخطأ الحقيقي يكمن في اعتمادنا على الأعمال الفنية كمصدر للمعلومة التاريخية، يجب أن نتذكر أنه يجب عدم التعامل مع الرواية، وغيرها من أنواع الفنون، كمصدر أو كمرجع يجب محاكمته بصرامة، كما يحاكم كتاب علمي أو أطروحة منهجية، لكن علينا أن نتذكر في الوقت ذاته أن المتلقي هو، في أغلب الأحيان، خالي الذهن، ولذا فهو يسلم قلبه وعقله للمَشاهد التي يراها والتي تشكل، من دون وعي منه، مصدره الأهم لتتبع الحقيقة. على صعيد آخر، فإن النكات، التي كانت تربط مسمى «الحشاشين» بتعاطي المخدرات والحشيش، وهي الكلمة المستخدمة في اللغة المعاصرة بالمعنى ذاته، ليست بعيدة كثيراً عن الواقع، حيث أن أحد تفاسير التسمية تذهب لأن جماعة حسن الصباح، قائد الحشاشين، كانوا يتعاطون الحشيش قبل تنفيذ مهام الاغتيال، التي برعوا وتفننوا فيها.

يتحول الفن إلى مصدر للمعلومة، ليس لأنه صنع بشكل احترافي لامس الحقيقة التاريخية، وإنما بسبب كسل المتلقي، الذي يرى أن مشاهدة مسلسل أو فيلم أعد بإتقان، وأغرق بالتفاصيل المثيرة هو أسهل بكثير من التنقيب في كتب التاريخ والتراث. اختيار حقبة تاريخية بعيدة عن أذهان الناس له فوائد، أهمها أن كاتب الرواية يستطيع أن يسترسل بحرية أكبر في سرد التفاصيل من دون مقاطعة، إلا من قبل بعض أصوات الباحثين الجادين، التي لا يكترث لها في الغالب، لا أصحاب العمل ولا المشاهدين، الذين يرون أنها تشوش عليهم وتفسد عليهم استمتاعهم باللحظة عبر المغالطة واستعراض المعلومات.

بالنسبة للحشاشين، فإن الموضوع ليس فقط بعيداً تاريخياً، وإنما يعاني من قلة المراجع، فكثيراً ما يصطدم الباحثون فيه بإفادات متناقضة، أو بفراغات ظلت خالية أو معلقة، لعل أحد أسباب تلك الفراغات كانت غزو المغول وإسقاطهم للقلعة الشهيرة المعروفة باسم «آلموت»، وما نتج عنه من تدمير للوثائق والآثار.

لا شك في أن خلق مقاربة لموضوعات تاريخية حساسة هو أمر صعب، يكفي أن نستحضر ضحالة الثقافة وانتشار التسطيح لدى غالبية المتلقين المفترضين. تخيل أن تحاول أن تشرح للعامة في عالمنا العربي المعاصر، الذي يصعب فيه على كثيرين فهم الفروق العقدية بين المدرستين السنية والشيعية، أمراً معقداً مثل ولادة الطائفة الإسماعيلية. ستحتاج لأن تقول إن الطائفة لا علاقة لها بمدينة الإسماعيلية المصرية، وأنها سميت كذلك نسبة لدعوتها لإمامة «المهدي الإسماعيلي»، وأنها نشأت بعد وفاة الإمام جعفر الصادق، حفيد الحسين بن علي، الذي هو إمام من أئمة السنة من ناحية وعلم من أعلام الشيعة، الذين نصبوه كأحد الأئمة المعصومين، من ناحية أخرى. بين مزدوجين يمكن القول إن جعفر الصادق شخصية محورية في التاريخ الإسلامي ولأسباب كثيرة تتجاوز موضوع «الحشاشين»، فيكفي أن نتذكر أنه وإن كان ينتهي نسب والده لعلي بن أبي طالب، إلا أن هذا النسب ينتهي من جهة والدته لأبي بكر الصديق، رضي الله عنه.

هذه الحقيقة تحرج المتعصبين المذهبيين، لأنها تدفع لإعادة التفكير في أساس ذلك الانفصال المرير بين السنة والشيعة، وجذور ذلك التنافس السياسي، الذي تغلف بالعقيدة، والذي تحقق من خلال الدولة الفاطمية الإسماعيلية، التي نافست العباسيين وامتدت من الشمال الافريقي حتى بغداد، التي أخضعتها، قبل أن يتم تحريرها بواسطة السلاجقة. هل يتوقع أحد أن يتطرق كاتب روائي لمثل هذه التفاصيل، من دون تدخل أو ميل، وبعرض محايد للحقائق؟ يبدو الأمر شبه مستحيل، خاصة إذا وضعنا في الأذهان أن كتابة التاريخ نفسها لا تكون في أغلب الأحيان عملية محايدة. إذا كان هذا هو حال عملية «التأريخ»، فكيف يكون حال الأعمال الفنية المقتبسة عنها؟

كانت تلك الحقبة التاريخية والأجواء السحرية التي ظهرت فيها الفرقة الإسماعيلية، التي سرعان ما انقسمت إثر خلاف حول أحقية الخلافة إلى نزاريين (إيران) ومستعليين (مصر)، وما تلا ذلك من بروز لجماعة «الحشاشين»، خاصة استيلاءهم على قلعة «آلموت»، التي تقع جنوب غرب بحر قزوين، ملهمة لكثير من الكتاب والأدباء منذ أيام الرحالة الإيطالي ماركو بولو، الذي صنع في قصصه مزيجاً من التأريخ والخيال، في وصف ما كان يدور في قلعة «آلموت». في الوقت المعاصر كان من أبرز الأدباء، الذين وظفوا موضوع الحشاشين، أمين معلوف، الذي استند إليها لكتابة رواية «سمرقند»، التي نالت شهرة واسعة بسبب طريقة كتابتها الشاعرية ومزجها بين الواقع والتاريخ، عبر تسليط الضوء على شخصيتين مهمتين هما حسن بن الصباح الإسماعيلي النزاري، زعيم الحشاشين، وعمر الخيام الشاعر الكبير.

بجانب «سمرقند» كانت قلعة «آلموت» هي عنوان رواية الكاتب السلوفيني فلاديمير بارتول وهي رواية ترجمت للغات كثيرة، واعتبرت من أهم الروايات السلوفينية. يمكننا تلمس الانبهار بتلك الفترة في مجموعة أخرى من الأعمال مثل رواية «قيامة الحشاشين» للهادي التيمومي و»سألقاك هناك» لرشا سمير و»نقطة الصفر» لناريك مليان وغيرها.

هناك الكثير من الأعمال الدرامية التي تثير جدلاً أو التي تتعمد الإثارة من أجل تصدر المشهد وكسب «الترند»، ولو عبر التركيز على الجرأة والإيحاءات الجنسية، كحال الكثير مما يحقق ملايين المشاهدات، لكن ما يحمد لمسلسل «الحشاشين» هو أنه فتح باباً للنقاش وللمعرفة، وحفز الكثيرين لطرق أبواب المختصين لمعرفة ما خفي عليهم من تاريخ المِلل والصراعات المذهبية.

كاتب سوداني

القدس العربي

المقال السابق
دراسة: الحمل يسرّع الشيخوخة!

الرصد

مقالات ذات صلة

مجزرة تدمر... ردّ إسرائيلي على "الحشد" العراقي أم رسالة لدمشق؟

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية