أصدر النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار الخميس قرارًا قضائيًا بمنع وزير الاقتصاد السابق أمين سلام من مغادرة البلاد. وقد أُبلِغ القرار إلى المديرية العامة للأمن العام ل تنفيذه فورًا.
وشمل القرار أيضاً مستشاريه كريم سلام وفادي تميم، والمدقق المالي إيلي عبود.
وجاء هذا القرار في ضوء إخبار تقدّم به رئيس لجنة الاقتصاد النيابية النائب فريد البستاني لدى النيابة العامة التمييزية، ضد سلام وآخرين، طالبًا التحقيق في شبهات اختلاس المال العام وتلقي رشاوى وصرف نفوذ من خلال ابتزاز شركات التأمين.
وبحسب هذا الإخبار، يواجه سلام اتهامات باستغلال موقعه الوزاري لتحقيق مكاسب شخصية عبر الضغط على شركات خاصة مقابل تسهيل أمورها بشكل غير قانوني.
منع السفر
الهدف من منع السفر هو ضمان عدم مغادرة سلام الأراضي اللبنانية ريثما تستكمل التحقيقات وتأخذ مجراها القضائي الصحيح.
ويُعتبر هذا التدبير احترازيًا لضمان مثول الوزير السابق أمام القضاء عند استدعائه ولمنع احتمال تهرّبه من المحاسبة. وتجدر الإشارة إلى أن قرار منع السفر جاء بعد سلسلة من المعلومات والوثائق التي جُمعت حول أداء سلام في الوزارة، والتي دفعت الجهات المعنية للتحرّك قضائيًا بشكل عاجل.
شبهات فساد واختلاس خلال تولّي الوزارة
على مدى أكثر من ثلاث سنوا ت أمضاها أمين سلام في وزارة الاقتصاد (من أيلول 2021 حتى أوائل 2025)، تراكمت مجموعة من الشبهات والتجاوزات المتعلقة بأداء وزارته.
ويكشف المرصد البرلماني إلى أن سلام استغل صلاحياته الواسعة، خصوصًا سلطة الوصاية على لجنة مراقبة هيئات الضمان (المسؤولة عن تنظيم قطاع التأمين)، لتحقيق منافع خاصة على حساب المال العام.
فقد امتنع عن تعيين رئيس للجنة مراقبة هيئات الضمان طوال فترة توليه المنصب، ما سمح له بالتحكّم منفردًا بصندوق اللجنة وقراراتها وأموالها.
أبرز المخالفات والتجاوزات المزعومة المنسوبة إلى سلام خلال توليه الوزارة بحسب المرصد: ابتزاز شركات التأمين المتعثرة: عبر التهديد بسحب تراخيصها أو عدم تجديدها إن لم تدفع مبالغ مالية كبيرة. تفيد التحقيقات بأن بعض الشركات طُلِب منها ما يصل إلى 250 ألف دولار لتجديد الترخيص، وقد مكّن هذا الأسلوب حاشية الوزير من تحصيل مئات آلاف الدولارات سنويًا بشكل غير قانوني
هدر المال العام في مصاريف غير مبررة: إنفاق ما يقارب 70 ألف دولار شهريًا من أموال لجنة مراقبة هيئات الضمان لتغطية مصاريف مكتب الوزير، وذلك على مدار أكثر من عامين ونصف، من دون تقديم مستندات توضّح أوجه الصرف
استئجار سيارات فارهة: صرف مبالغ تصل إلى 1000 دولار شهريًا في الشتاء و2000 دولار في الصيف على استئجار سيارة خاصة للوزير، رغم امتلاك الوزارة سيارات رسمية يمكن استخدامها
عقود تدريب مشبوهة: إبرام عقد مع شركة أجنبية (ذكرت مصادر أنها ماليزية) لتقديم برنامج تدريب تقني لموظفي لجنة مراقبة شركات التأمين لمدة أسبوعين فقط، بكلفة بلغت 640 ألف دولار، وهي كلفة يعتبرها الخبراء مبالغة جداً بالنسبة لمضمون التدريب
تعيينات واستشارات مخالفة للقانون: قيام سلام بتعيين مستشار قانوني (محامٍ) للجنة مراقبة هيئات الضمان براتب سنوي يقارب 75 ألف دولار من أموال اللجنة بدون إجراء مناقصة أو شفافية في التعاقد
عقد تدقيق مالي مبالغ بقيمته: توقيع عقد مع شركة تدقيق محاسبي بقيمة 200 ألف دولار لتدقيق حسابات اللجنة، في حين تشير تقديرات نقيب خبراء المحاسبة إلى أن التكلفة العادلة لمثل هذا العمل لا تتجاوز 75 ألف دولار كحد أقصى. هذا التفاوت يثير شبهة هدر أموال عامة، وقد دفع نقيب المحاسبين طوني عبود إلى طلب التوسّع بالتحقيق في دور بعض الجهات بتسهيل عمليات مالية غير قانونية مرتبطة بهذا العقد
فادي تميم وكريم سلام
لم تأتِ الاتهامات الحالية بحق أمين سلام من فراغ، بل سبقتها تحقيقات قضائية أثمرت عن إدانة بعض معاونيه المقربين في ملفات ذات صلة. فخلال تولّي سلام الوزارة، برز اسم فادي تميم (مستشار الوزير) وكريم سلام (شقيق الوزير) في صلب التحقيقات. وقد تم توقيف الاثنين على خلفية قضية ابتزاز شركات التأمين: حيث أوقف المستشار تميم، كما أوقف شقيق الوزير كريم سلام لفترة قبل أن يُفرج عن الأخير مع احتجاز جواز سفره واستمرار التحقيق معه في أواخر العام 2024.
توّجت هذه التحقيقات بصدور حكم قضائي بارز عن محكمة جنايات بيروت برئاسة القاضي سمير عقيقي في حزيران 2024.
وقد خلص الحكم إلى ثبوت قيام شبكات مرتبطة بوزارة الاقتصاد بعمليات استغلال للسلطة وابتزاز طالت عدة شركات تأمين تواجه تعثّرًا ماليًا. وعلى أثر ذلك أُدين المستشار فادي تميم بجرم قبض رشوة (وفق المادة 352 من قانون العقوبات) وتبييض أموال (وفق قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 44/2015)، بعدما ثبت أنه تلقى مبالغ مالية كبيرة من إحدى شركات التأمين مقابل تسهيل تجديد ترخيصها. أوقع القضاء على تميم عقوبة السجن لمدة سنة واحدة بالإضافة إلى غرامة مالية بلغت خمسمئة مليون ليرة لبنانية.
وهذه الإدانة شكلت مؤشرًا قضائيًا واضحًا على صحة بعض الشبهات المثارة، رغم أن التحقيقات آنذاك لم تطل الوزير نفسه أو شقيقه بشكل مباشر. من الأمثلة التي تكشّفت خلال تلك المحاكمة قضية شركة التأمين “ المشرق”، حيث أظهرت التحقيقات أن مستشار الوزير تميم طلب من الشركة مبلغ 250 ألف دولار كدفعة مالية مقابل عدم سحب ترخيصها وتجديده، مدعيًا أن المبلغ يمثل «أ honorarium» أو أتعابًا استشارية.
وقد دفع مالك الشركة جزءًا من المبلغ (حوالي 100 ألف دولار) قبل أن يبادر إلى تقديم إخبار لدى النيابة العامة المالية في تشرين الثاني 2023 بعد تدخل رئيس الحكومة آنذاك نجيب ميقاتي. وإثر تحرّك القضاء في هذه الشكوى، أعاد تميم المبلغ الذي حصل عليه إلى الشركة في محاولة لتخفيف تبعات فعله.
ولكن المحكمة اعتبرت أن واقعة دفع المبلغ ثم إعادته تؤكد حصول الابتزاز قبل انكشاف الأمر، مما أدى إلى إدانة تميم بالرشوة وتبييض الأموال كما ذُكر آنفًا.
جدير بالذكر أن التحقيق القضائي حينها ركز على تميم ولم يتم الادعاء على الوزير سلام أو شقيقه كريم في تلك القضية المحددة، الأمر الذي أثار تساؤلات حول مدى تورطهما أو علمهما بتفاصيل ما جرى.
دور لجنة الاقتصاد النيابية في كشف الملف
لعبت لجنة الاقتصاد والتجارة النيابية في مجلس النواب دورًا أساسيًا في تتبع ملف وزارة الاقتصاد خلال حقبة سلام، مما ساهم بشكل كبير في كشف هذه التجاوزات ووضعها أمام القضاء. فعلى مدار عدة أشهر، عقدت اللجنة عشرات الاجتماعات وجلسات الاستماع، واستدعت الوزير السابق أمين سلام أكثر من مرة لمناقشته حول تلك الملفات.
وقد تراكم لدى اللجنة ملف موثق يتضمن الأدلة والمستندات المتعلقة بمختلف المخالفات المالية والإدارية التي جرى رصدها.
في 19 شباط 2025، عقدت لجنة الاقتصاد جلسة خاصة لمناقشة قضية مخالفات وزارة الاقتصاد، دُعي إليها أمين سلام للإستماع إلى إفادته والرد على الاتهامات.
إلا أن سلام تغيّب للمرة الثالثة على التوالي عن حضور اجتماعات اللجنة متهرّبًا من المواجهة المباشرة، ما اعتبره النواب تحديًا للدور الرقابي لمجلس النواب. خلال تلك الفترة، دأب سلام على نفي الاتهامات وربط ما يُثار حوله وحول شقيقه بـ«استهداف سياسي شخصي» يتعرض له.
وقد أثار هذا الموقف امتعاض أعضاء اللجنة الذين رأوا في تغيب الوزير السابق محاولة لتفادي المساءلة البرلمانية. إزاء استمرار غياب سلام وتعذّر الإستماع إليه، توصّلت اللجنة إلى قرار بالإجماع يقضي بإحالة الملف كاملًا إلى القضاء. وأعلن رئيس اللجنة النائب فريد البستاني، بموافقة كافة الأعضاء من مختلف الكتل، إحالة كل ما جُمِع من أدلة ووثائق إلى النيابة العامة التمييزية وكذلك النيابة العامة المالية لاتخاذ الإجراءات المناسبة.
موقف أمين سلام
في مقابل سيل الاتهامات والوثائق التي تلاحقه، يصرّ أمين سلام على نفي جميع ما يُنسب إليه من مخالفات. وقد عبّر سلام مرارًا عن استيائه مما يعتبره حملة استهداف سياسي ممنهج ضده وضد فريق عمله. ففي كل مرة كانت تُطرح فيها قضية تجاوزات داخل وزارته، كان سلام يسارع إلى وصف الأمر بأنه مجرد استهداف شخصي له، نابع من خلفيات سياسية وليس بدافع الحرص على المال العام.
كما اعتبر أن ما يُشاع عن تورطه أو تورط شقيقه في فساد مالي هو شائعات مغرضة تهدف إلى تشويه سمعته وعرقلة طموحه السياسي. خلال تعليقه على بعض الإجراءات السابقة، مثل قرار مصرف لبنان تجميد حسابات شقيقه كريم سلام أواخر عام 2024، قال أمين سلام صراحة إن ما يجري بحقه هو «استهداف سياسي بلا طعمة» وإن تلك الإجراءات مجرد تدابير احترازية أُعطيت حجمًا أكبر من الواقع.