على مدى أحد عشر شهرًا، روى “حزب الله” للبنانيين “قصة” جميلة جدًا، وكانت لها نهاية رائعة للغاية، مثل تلك المستوحاة من أساطير الفرسان والأميرات: إسرائيل أضعف من أن تفكر بتوسيع الحرب على لبنان، لأنّها ما إن ترى طيف مقاوم من الحزب حتى تبدأ بالرجفان!
وكان قياديّو “حزب الله” يروون للبنانيين هذه “الحدوتة”.يقصّونها، بلا هوادة، لهؤلاء الخائفين من تداعيات فتح الجبهة اللبنانية، في سياق ما سمي ب”مؤازرة” غزة، ويطلبون منهم أن يناموا ويحلموا “بالصبيان والبنات”، وأن لا يعيروا انتباهًا لأصوات الشؤم التي يطلقها “صهاينة الداخل”!
يا الله، كم كانت جميلة هذه القصة التي راح الآباء يخبرونها لأولادهم، والأمهات يتداولن بها في صبحياتهن، والأساتذة يعلمونها لتلامذتهم، والمحللون يقدمونها للمستمعين والمشاهدين والقراء الذين كلّما “زاد الملح والبهار” كانوا يضاعفون حرارة تصفيقهم!
ولكن قبل أن ينتهي الشهر الثاني عشر، على “الفتح المبين” للجبهة في الثامن من تشرين الأول، حتى طار النوم من العيون، وقُتل “مؤلفو الرواية”، وتهدمت المنازل والأحياء والقرى، وتهجر الناس، وتغيّرت القصة!
الشيخ نعيم قاسم، “البديل المرحلي” للأمين العام ل”حزب الله” الراحل حسن نصرالله، أخبرنا في إطلالته الثانية، منذ واقعة السابع والعشرين من أيلول، أنّ إسرائيل التي سبق أن جاد في توصيفاته لضعفها وهوانها قبل أسابيع قليلة، إنّما كانت تُضمر العدوان على لبنان، ولكنّ “حزب الله” بفتحه الجبهة اللبنانية، قبل سنة، أجبرها على إرجاء مخططاتها العدوانية.
يا له من اكتشاف مبين! يا لها من حكمة عظيمة! يا له من استعداد مميّز!
ومع تغيير الشيخ نعيم قاسم ل”الحدوتة” حافظ على عناصر البطولة التي لا بد منها، فوعد بالإنتصار، ولم ينسَ مطلقًا أن يخصص فترة من كلمته للساحرة والفاتنة إيران، دفاعًا وإشادة وولعًا وهيامًا…وسمعًا وطاعة!
ما لم يقله قاسم ومن يكتب له ومن يقف وراءه، وفيما الموت والدمار والتعتير والنزوح والخوف والقلق، تفرض نفسها على اللبنانيين عمومًا وعلى أبناء الطائفة الشيعية خصوصًا، كيف أصبح ما كان مستحيًلا حقيقيًّا، وكيف انقلب الإطمئنان الى كابوس، وكيف يمكن لمن يسمع اليوم بعد كل ما كان قد سمعه بالأمس، أن يصدّق وعود الصمود والإنتصار؟
وما هو هذا الإنتصار “اللي بيحرز” كل هذه المآسي؟ هل هو منع اغتيال قادة “حزب الله”؟ هل هو منع المس بالضاحية الجنوبية لبيروت؟ هل هو منع تدمير الجنوب؟ هل هو حفظ وصون البقاع؟ وهل هو الوصول الى القدس؟
أصبح الإنتصار الموعود، في حال تحقق، مجرد وهم يتربع على عرش من ركام وجثث.
ولكن ماذا يعني هذا الإنتصار؟
لقد تقهقهر مفهومه بشكل معيب. كان منع الهجوم البري على غزة. أصبح منع الهجوم البري من تحقيق أهدافه. أصبح منع الغزو من أن يمتد الى رفح. أصبح دفع إسرائيل الى القبول بوقف إطلاق النار في غزة. أصبح منع إسرائيل من الهجوم البري على لبنان. وأصبح الآن إجبار إسرائيل على وقف إطلاق النار في لبنان.
أهذا هو الإنتصار الذي يستحق استقطاب كل المآسي؟
بالأمس القريب، خرج “أصدقاء” حزب الله، في تحالف السلطة، يمثلهم الرئيسان نبيه بري ونجيب ميقاتي وزعيم دروز لبنان وليد جنبلاط، وقالوا للوسطاء والمفاوضين: أوقفوا هذه الحرب، فنحن لن نضحي بلبنان وشعبه، بعد اليوم، من أجل البقاء في وحدة الساحات.
لم يكد هذا الكلام يصل الى مسامع الإيرانيين حتى جنّ جنونهم. خرج المرشد علي خامنئي وأمر بمواصلة الحرب “حتى الإنتصار” في لبنان وغزة. وجاءنا الى لبنان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وألقى علينا درسًا في “وحدة الساحات” وفي تحمّل التضحيات… يا له من درس ضجّت أصداؤه في الخيام المنتشرة على قواطع الطرق وأرصفة المدن والمستشفيات المثقلة والأبنية التي تنتظر دورها على قائمة التهديم، و”طائرات الخير” المحمّلة بالقمح والأرز وفرش النوم والحليب والأدوية لمن جرى التفضل عليهم وتكديسهم في المدارس!
هل أصبحت العودة الى خيال لما كنّا عليه، هو الإنتصار؟
ألهذا وُجد مفهوم المقاومة؟
أمن أجل أن تضحي بشعبها في مقابل أن لا تحقق له ، في حال أبدعت، أيّ شيء، كانت المقاومة؟
أمن أجل استدعاء العدو الى اجتياح بلدك، برًّا وبحرًا وجوًّا، وجدت المقاومة؟
أمن أجل التضحية ببلدك وناسك، كرمى لعيون دول مجنونة وُجدت المقاومة؟
من يُنقذنا من هذا الجحيم؟ من ينقذ مفهوم المقاومة النبيل من هذا النوع من المقاومات؟
نحن في لبنان، لا ندفع لا ثمن الكرامة، ولا ثمن العزة، ولا ثمن السيادة، ولا ثمن فلسطين. نحن في لبنان، ندفع ثمن إبقائنا، في موقدة الجمهورية الإسلامية في إيران التي يحكمها مجنون هارب من عصور ما قبل، قبل الوسطى!