في ذكراها الخمسين قد يبدو غريباً القول بأن الإدعاء الكاذب بتحقيق إنتصار في حرب أكتوبر 1973 على الجبهة السورية كان من أسوأ ما حدث لهذا البلد وأنه جلب على الشعب السوري كوارث هائلة في حجمها وأنه كان أحد الأسباب الرئيسية في الحال الذي إنتهت إليه سوريا اليوم، مع أن السائد في مجتمعات هذه المنطقة التسامح مع إدّعاءات النصر حتى لو كان معروفاً أنها غير حقيقية بدعوى أنها قد تساهم في رفع الروح المعنوية ومنع مشاعر اليأس من السيطرة على الشعوب، ولكن الحقيقة أن إدّعاءات النصر الكاذب قد جلبت على هذه المنطقة ويلات لا حصر لها وسيتناول هذا المقال أحد الأمثلة على ذلك.
ولتوضيح ذلك لابدّ من العودة قليلاً إلى الوراء، فمن المعروف اليوم أن العراق ينقسم إلى ثلاث مكوّنات رئيسية، شيعة وسنّة وأكراد، وأن في لبنان 17 طائفة وأن الولاء الطائفي في الدولتين أكثر أهمية من الولاء الوطني، أما في سوريا وهي كذلك بلد متعدّد الطوائف فقد كان الخطاب السائد عند الأوساط السياسية والثقافية أن الوحدة الوطنية تقتضي منع الحديث عن الطائفية رغم أن الأمور في الواقع كانت تسير بإتجاه مُختلف.
ففي إنقلاب الثامن من مارس/آذار عام 1963 تم تسريح مجموعة كبيرة من الضباط بذريعة أنهم من عائلات بورجوازية أو إقطاعية أو رجعية ولكن في الحقيقة كان غالبية هؤلاء الضباط من سنّة المُدن، وبعد أربعة أشهر في يوليو/تموز من نفس العام تم تسريح دفعة ثانية من الضباط بإعتبارهم ناصريّين والذين كانوا في أغلبهم من سنّة الريف، وفي فبراير 1966 وبذريعة خلافات داخل حزب البعث تم إستبعاد قيادات سنّية من أعضاء حزب البعث نفسه بحيث أصبح وجود السنّة في المناصب القياديّة شكليّاً وبدون صلاحيّات رُغم أنهم يشكّلون ثلاثة أرباع الشعب السوري، وبعدها بأشهر تمّ التخلّص من الضباط الدروز وفي عام 1968 “إنتحر” عبد الكريم الجندي أكبر مسؤول أمني من الطائفة الإسماعيلية، بحيث إنتهت هذه التصفيات إلى جعل كافّة قيادات الأمن والجيش من الطائفة العلويّة.
وشهدت السنتين التاليتين صراعاً بين أكبر ضابطين علويّين هما صلاح جديد الذي إرتكب خطأً قاتلاً بتركه رئاسة الأركان والتفرّغ للحزب الذي ظنّ أنه سيكون قائداً للدولة والمجتمع على الطريقة السوفييتية أو الصينية، وبين وزير الدفاع حافظ أسد الذي زادت مع الوقت سيطرته على الجيش إلى أن إستقرّ له الأمر وتخلّص من خصومه في نهاية عام 1970، لكن بقي وجود جيش كل قياداته من طائفة واحدة أمراً غير مُبرّر وكان من المرجح أن يتم رفضه عاجلاً أو آجلاً.
ولكن عندما خطّط الرئيس السادات لإستعادة سيناء رأى أنه من الأفضل القيام بهجوم عسكري متزامن على الجبهتين المصرية والسورية مما سيشتّت تركيز الجهد العسكري الإسرائيلي ويُعطي الجيش المصري فرصة أكبر لعبور قناة السويس وهذا ما حدث فعلاً، ولمعرفة النتيجة الحقيقية لهذه الحرب على الجبهة السورية من الممكن إستعراض تطوّراتها يوماً بيوم، ففي اليوم الأول شنّ الجيش السوري هجوماً واسعاً وحقّق بعض الإختراقات في عدّة محاور، لكن نجاحه الحقيقي كان في الإستيلاء على مرصد جبل الشيخ، وقد تركّز الجهد العسكري الإسرائيلي خلال اليومين التاليين على الجبهة السورية لقُربها من أماكن حيوية في إسرائيل فتمّ إستيعاب الهجوم السوري ثم بدأ هجوم إسرائيلي مُضاد نجح في الدخول بعمق 15 كلم وإحتلال 500 كيلومتر مربع إضافي من الأراضي السورية.
وعندها إنخفضت حدّة المعارك على هذه الجبهة بسبب إنتقال الجهد العسكري الإسرائيلي إلى الجبهة المصرية، وقبل نهاية الحرب أعادت إسرائيل سيطرتها على مرصد جبل الشيخ، أي انتهت الحرب بخسارة سوريا مزيداً من أراضيها، وأوضحت الويكيبيديا ذلك بقولها أن نتيجة هذه الحرب على الجبهة السورية كانت إنتصاراً لإسرائيل بينما كانت نتيجتها على الجبهة المصرية غير حاسمة، ولكن الرئيس السادات إستغل هذه الحرب في مبادرة سلام شجاعة أعادت لمصر كافة أراضيها المحتلة، بينما بقي الوضع على حاله في سوريا بل ضمّت إسرائيل مرتفعات الجولان عام 1981.
وبعد إنتهاء الحرب ببضعة أشهر تمّ التوقيع على إتفاقيات لفك الإشتباك بين سوريا وإسرائيل تعهّد فيها الطرفان بوقف الأعمال العدائية وإنسحبت إسرائيل من الأراضي التي إستولت عليها في هذه الحرب وعن شريط ضيق حول مدينة القنيطرة المدمّرة، فقام حافظ أسد برفع العلم السوري فوق بقايا هذه المدينة في إحتفال كبير.
ومع أن الأمور على الأرض سارت على هذا النحو ولكن الإعلام العربي كان يُصوّر نتائج الحرب بشكل مختلف تماماً، فقد كان يتحدث عن إنتصار عسكري كبير وعن نهاية أسطورة الجيش الإسرائيلي، ولقي هذا الإدّعاء قبولاً واسعاً عند “الجماهير” العاطفية التي تبحث عن أي إنتصار في واقعها المليء بالإحباطات والهزائم، وتفرّغت محطات التلفزيون المحلية لبث الأغاني الحماسيّة مع تسجيلات من هذا النصر المزعوم والتي إقتصرت في سوريا على بضعة مشاهد مثل الإستيلاء على مرصد جبل الشيخ رغم أنه تمّت خسارته في ما بعد وإسقاط طائرات إسرائيلية وقيام حافظ أسد برفع العلم السوري فوق القنيطرة.
وبإدّعاء النصر هذا ترسّخت سلطة حافظ أسد داخل سوريا بل أصبح زعيماً على المستوى العربي، فتوالت زيارات قادة دول الخليج لسوريا لإظهار دعمهم عبر إعطاء مساعدات مالية سخيّة لتعويض خسائر الحرب، وكان من الطبيعي أن توضع نسبة كبيرة من هذه الأموال تحت تصرّف الرئاسة، وفي النتيجة قفزت ثروة الأسد إلى مستوى جديد لم يكن معروفاً في سوريا من قبل.
كما كان من نتائج إدّعاء النصر في هذه الحرب إشتداد شوكة الفصائل الفلسطينية التي جعلت من جنوب لبنان مقرّاً لها بعد طردها من الأردن عام 1970، وفي حمّى النصر الوهمي رأت هذه المنظمات أن الوقت قد أصبح مناسباً لها للسيطرة على كامل لبنان، وكان ميزان القوى العسكري يميل لصالحها فوجدت الولايات المتحدة أن الطرف الأنسب لإيقاف هذه المنظّمات عند حدّها هو النظام السوري، فطلبت منه التدخل في لبنان وهذا ما حصل فعلاً مما أدى إلى توسيع سلطة حافظ أسد لتشمل لبنان.
ومع نصر أكتوبر المزعوم والتفويض الدولي للسيطرة على لبنان لم يعد هناك من داعي لإخفاء حقيقة أن عائلة الأسد هي التي تحكم سوريا، ولذلك أصبح رفعت شقيق حافظ أسد الأصغر الرجل الثاني في الدولة السورية لعقد من الزمن إلى أن إختلف الشقيقان فحشد رفعت قواته وهدّد بإحراق دمشق ولكن حافظ تمكّن من إخراجه من سوريا، وبعدها تصاعد دور باسل إبن حافظ أسد الأكبر وتسلّم شيئاً فشيئاً مسؤوليات كبيرة وهو في العشرينات من عمره حتى أصبح نائب الحاكم وخليفته المُنتظر، وعندما قُتل باسل بحادث سيارة على طريق مطار دمشق وهو في طريقه إلى سويسرا لأمور تتعلّق بأموال العائلة لم يستغرب أحد أن يتم إستدعاء الأخ الأصغر بشار من لندن ليتولى خلال فترة قياسية جميع مسؤوليات أخيه المتوفّي، وعند وفاة حافظ أسد تم توريث بشار حكم سوريا بكل سلاسة وسهولة.
لو إقتصرت نتائج إدّعاءات النصر الكاذب في حرب أكتوبر على مجرّد حكم عائلة الأسد لسوريا لربّما كان الوضع مقبولاً، ولكنها أدّت إلى سلسلة من الجرائم والمجازر التي إرتكبت بحقّ الشعب السوري، منها إعدام مئات السجناء السياسيين العُزّل ميدانياً في سجن تدمر عام 1980 ثم قتل عشرات آلاف المدنيين في ما عُرف بمجزرة حماة 1982، ومنها ما حدث في سوريا من فظائع منذ عام 2011 حتى اليوم والتي قُتل فيها مئات الآلاف وهُجّر ونزح أكثر من نصف الشعب السوري.
والهدف الأول من هذا الإستعراض هو محاولة فهم ما حدث في سوريا خلال العقود الستّة الماضية، ولن يكون ذلك ممكناً دون تسمية الأشياء بمسمّياتها الحقيقية بما فيها الطبيعة العائلية للحكم في سوريا وكيف تلاعبت هذه العائلة بالوتر الطائفي للبقاء في السلطة، لأن معرفة الواقع والحديث عنه بمنتهى الوضوح قد يُساعد في إيجاد حل للمشكلة السورية يُراعي مخاوف الجميع. والهدف الآخر توضيح أن لإدّعاءات النصر الكاذب أثمان قد لا تخطر على البال، مثل إدّعاء حزب الله النصر على إسرائيل عندما إنسحبت من جنوب لبنان عام 2000 والثمن الباهظ الذي مازال لبنان يدفعه مقابل إدّعاء النصر هذا حتى اليوم، أو غيرها من الإنتصارات المزعومة لمنظمّات إسلامية كان مقياس النصر الوحيد فيها هو أنها تسبّبت في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا وخاصّة من المدنيين، دون أن تتمكن جميع هذه المنظمات من تقديم نموذج مقبول في الحكم أو من تحقيق أي إنجاز في البناء أو الإزدهار.