أراد النحات والرسام والشاعر اللبناني-الفرنسي رودي رحمة في معرضه تفتّح الزمن” Floraison du Temps
أن يزهّر هذه المرة خارج وطنه علّه يتمكّن من إعادة ضخّ الحياة فيه، بعدم حرمته الحرب، كما غالبية الفنانين والمثقفين والمفكّرين، من العرض داخله، فجاء بجزء من منحوتاته ولوحاته من محترفه اللبناني ليزاوجها داخل جدران غاليري “مودوس” الباريسي في “بلاس دي فوج”.
منحوتة الصمت
في معروضات رحمة التي تشبه لبنان، الكثير من التوازن بين الحزن والفرح، بين الضوضاء والسكينة، بين الصبا والشيخوخة، وبين الواقع والمرتجى، كما بين الجحيم والنعيم، وهو، الذي حاول تجسيد كل ذلك سواء بريشته أو إزميله، بانحناءات متعرّجة طغت على كل أعماله التي جاء معظمها على شكل إنسان، حيث فَرَد للمرأة مساحة واسعة منها، وجعل ملمسها الناعم على تماس مع صلابة الصخر المتموّج الذي يتجّه صعودًا بصورة لولبية فيزداد اتساعًا كلما علا وارتفع.
فجر الحب
واللافت في منحوتات رحمة، سواء كانت من بودرة الصخر أو الميكست ميديا أو البرونز، كثرة الانحناءات، حيث بعضها صامد شامخ، وبعضها الآخر منحنٍ. انه لا يؤمن بالخطوط العمودية والفقرية، إنما بالانحناءات على شكل إنسان حيث يصعد وينزل ثم يعاود الصعود للبقاء في عليائه، وكأنه يحاول دعوة أبناء وطنه لرفعة الرأس، وأن يكون صراخهم نحو الأعلى، مسكن الخالق وليس نحو الأسفل. كل هذه المعاني جسّدتها منحوتة “الصخرة الماشية” البرونزية، حيث تآخى الإنسان الذي ضاعت ملامحه في رأسه المتوغّل في أعماقه مع الصخر الذي يسير عليه، وصرخاته المكبوتة التي تأبى أن تخرج من الجسد النافر الذي ينبئ بوجوده.
الصخرة الماشية
والتعرية والتأثر بالريح من العوامل الواضحة جدًا في أعمال رحمة، والتي تعكس نشأته، فهو من مواليد بشري في شمال لبنان على مشارف أرز الرب، بين الصقيع والثلوج والرياح، فتأخذك الخطوط المنحرفة المتعرّجة في أعماله في رحلة عبر الزمن تصارع فيها العواصف وتتحدّى الثلوج المكدّسة التي لا تلبث أن تمحو آثار الأقدام المنهكة التي تصارع من أجل الوصول، متحدّية الخوف والصقيع والجوع والإرهاق.
التجربة
ويقول رحمة: “الرياح عندما تعصف على المرء ببرودتها تظن وكأن الكون كلّه قادم إليك، وهي تترك آثارها على الأشياء فنرى خطوط الزمان حيث هناك فرق شاسع بين الزمان وبين الوقت، فالزمان في اللغة العربية من حيث اللفظ هو البعد بينما الوقت هو الاختصار ومحظوظ من يجد وقته على خيط الزمان الطويل”، وهذا ما يبدو واضحًا في الأعمال المعروضة حيث الوقت ترك آثاره بقوة على الزمان من خلال “البصمة والدعسة والخربشة والتشلّعات”، كما يشرح.
رحمة ونمر أمام إحدى لوحات المعرض
ورودي رحمة المؤمن بأن الفن هو الوحيد القادر أن يخلّص الشعوب وينشلها من دوامة الحروب “حيث الأرض تحوّلت إلى جمرة تنفجر بعد أن ضاعت الإنسانية” كما يقول، جسّد إيمانه بقيامة لبنان في منحوتاته المنبثقة من بين تشقّقات الصخور وتطاير الأوراق المرتفعة نحو الأفق، هذا الأيمان بالقيامة الذي ترسّخ عنده طفلًا في بلدته بشري المشرفة على وادي القديسين حيث أبى أن تموت أقدم أرزات “غابة الرب” التي نخرها السوس، ورفض أن تتحوّل إلى وقود، فصنع بإزميله منها أكبر منحوتة خشبية في العالم أطلق عليها اسم الثالوث، بلغ ارتفاعها ٣٩ مترًا وأدخلته موسوعة “غينيس بوك”.
يذكر أن المعرض الذي يستمر لغاية ٢٥ تشرين الثاني/ نوفمبر، جاء بدعوة من رابطة قدامى جامعة القديس يوسف في فرنسا.