ابراهيم ناصر
“اليوم التالي”. إنّه الاحجية الكبرى التي تشغل بال الدبلوماسية الدولية وتؤرق عواصم القرار المعنية من واشنطن ولندن وباريس الى القاهرة والدوحة والرياض وصولا الى تل ابيب. أفكار كثيرة تطرح وخطط مختلفة تناقش، مؤتمرات تعقد، جولات مكوكية على مدار الوقت، ودبلوماسيون من كل المستويات والجنسيات يُقلّبون في السرّ والعلن المشاريع والأفكار والمقترحات. الجميع يبحثون عن شكل هذا اليوم التالي، عن طبيعة المسار السياسي الذي سيسلكه النزاع الفلسطيني الإسرائيلي عقب انتهاء حرب غزة. من سيملئ فراغ حماس في غزة؟ من هي الجهات التي ستدفع كلفة إعادة الاعمار وتدير هذه العملية؟ ما شكل الإدارة التي ستتولّى شؤون السكان والاهم التي ستضمن امن إسرائيل؟ ما هو مصدر شرعية تلك الإدارة ومن هي القوى الإقليمية التي سترضى برعايتها قبل ان تصبح جزءا من الدولة الفلسطينية المعترف بها دوليا التي يكثر الحديث حولها في هذه الفترة؟
على وقع صدمة السابع من تشرين الأوّل، وما تبعها من أهوال حرب غزة اثبت النزاع الفلسطيني الإسرائيلي انه إذا لم يجد حلًّا سلميًّا وشاملًا فإنّه سوف يبقى يشكل السبب الأبرز لعدم استقرار الشرق الأوسط والفتيل الدائم الجهوزية لتهديد المنطقة بالاشتعال والتفجير وبتوريط قوى دولية وإقليمية في أزمات لا نهاية لها.
وعلى هذا الأساس وبعد اهمال طويل استعادت المسألة الفلسطينية لحيوتها السياسية وازدادت قناعة القوى الاقليمية والدولية المؤثرة بضرورة استعجال التقاط فرصة المأزق الذي أوقع فيه أطراف النزاع أنفسهم لمحاولة الدفع باتجاه حل سياسي نهائي للصراع.
وهكذا على خلفيات أيديولوجية، دينية، انتهازية او مبنية على واقعية سياسية، تتزاحم وتتعدّد في هذه الفترة مشاريع الحلول المختلفة والتي تنتظم جميعها بين نقيضين. الأول مبني على عدم الاعتراف بوجود شعب فلسطيني فيما يقابله على الطرف الثاني من لا يرضى بأقل من تدمير دولة إسرائيل وازالتها من الوجود.
من حسن الحظ ان اغلبية المشاريع المتداولة يأتي ترتيبها بين هذين النقيضين ولو بدرجات متفاوتة من الاختلاف.
ليست المرة الأولى التي تتكثف فيها الجهود والنيات على وقع أصوات المدافع في سبيل بلورة حل دائم ترضى به أطراف النزاع
وهذه ليست المرة الأولى التي تتكثف فيها الجهود والنيات على وقع أصوات المدافع في سبيل بلورة حل دائم ترضى به أطراف النزاع. بالعكس يزخر التاريخ الطويل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني بالمبادرات والمسارات السلمية ومشاريع الحلول التي تم اجهاضها وبالفرص العديدة الضائعة لوضع حدّ لهذه المأساة الدائمة. هل نكون هذه المرة على موعد مع فرصة حقيقية تجعل من الحرب الدائرة آخر الحروب وتفتح الطريق امام سلام دائم قائم على احترام حق الشعبين المتصارعين بالحياة الكريمة؟
سوف نحاول الإجابة على هذا التساؤل من خلال النظر الى طبيعة مشاريع الحلول المختلفة التي تُرمى بكثافة في هذه الفترة على الساحة السياسية من قبل الأطراف المعنية.
طبيعة اليوم التالي سيقررها الرأي العام الإسرائيلي وحتى الآن ما زالت مفاعيل ٧ تشرين غير واضحة في أي اتجاه ستأخذه. الوقت ما زال مبكرا ولو أنّ اكوام الجثث لا تزال تكبر كل يوم.
نبدأ عن الجانب الإسرائيلي حيث النسبة الأكبر من تنوّع الأفكار المطروحة والتي تعبّر في معظمها عن رفض مطلق لوجود دو لة فلسطينية كشرط لانهاء الصراع.
منذ أيام قليلة وفي حديث الى صحيفة جيروزاليم بوست أعلن أفغيدور ليبرمان الوزير السابق، الحاضر في قلب المشهد السياسي الإسرائيلي منذ ما يقارب العقدين، وزعيم حزب إسرائيل بيتنا عن تصوّره للحل الدائم. بحسب ليبرمان والذي ينطلق من خلفية صهيونية علمانية متشدّدة، فلقد أُعطي الفلسطينيون أكثر من مرة منذ اتفاق أوسلو فرصة بناء دولتهم المستقلة في الضفة وغزة لكنهم عجزوا عن التقاطها واثبتوا، ودائما بحسب ليبرمان، انهم غير قادرين على إدارة شؤونهم واحترام التزاماتهم. وعلى هذا الأساس يستنتج ليبرمان بأنّ حلّ الدولتين لم يعد ممكنا وأصبح غير قابل للتحقق ليقترح حلّا على الشكل التالي: بموافقة دولية وعربية تعطى مصر الوصاية على غزة تمهيدا لضمّها لمصر فيما تتقاسم الدولة العبرية الضفة الغربية مع الأردن على أساس ضم مناطق الضفة حيث التواجد السكاني الفلسطيني (المنطقة أ وأجزاء من المطقة ب) الى المملكة الهاشمية.
وكما لم ينجح هذا الحل في السابق اذ طرحه اليمين الإسرائيلي وعمل على تحقيقه منذ عقود، فهو أصبح مستحيلا مع مرور الزمن. لمئة سبب وسبب لن تقبل لا الأردن ولا مصر حتى بمجرد الحديث عن هذا الموضوع وإعادة عجلة التاريخ الى الوراء عدا ان الشعب الفلسطيني الذي ناضل عشرات السنين لبناء هويته الوطنية المستقلة وهو على قاب قوسين من تحقيق حلم الدولة الفلسطينية لن يرضى باي حال من الأحوال بالذوبان ضمن هويات أخرى مهما بلغت من درجات الأخوية.
الشعب الفلسطيني الذي ناضل عشرات السنين لبناء هويته الوطنية المستقلة لن يرضى بأي حال من الأحوال بالذوبان ضمن هويات أخرى مهما بلغت من درجات الأخوية
على يمين ليبرمان تأتي طروحات عتاة التطرف الصهيوني والاستيطاني والتمييز العنصري والذين يشكلون داخل حكومة نتنياهو جناحا وازنا بقيادة ايتامار بن غفير وبيزاليل سموتريتش. هذا الجناح بما يمثّل لا يعترف بكل بساطة بوجود الشعب الفلسطيني ويعتبر كل ارض فلسطين من البحر الى النهر ارضا توراتية لا سيادة فيها الا للشعب اليهودي. وعلى وقع حرب غزة لا يكل قادة هذا الجناح عن الإعلان عن ضرورة الاستفادة من فرصة اندلاعها من اجل تهجير فلسطينيي القطاع الى مصر او الى أي دولة أخرى ترضى باستقبالهم والى تأبيد احتلال القطاع ومعاودة استيطانه. اما فيما يتعلق بالضفة الغربية فهم يدعون الى ضمّها نهائيا الى إسرائيل والعمل المتواصل على تحويل حياة الفلسطينيين فيها الى جحيم دائم بغية دفعهم الى الهجرة الطوعية وتهجير من تبقى بالقوة حال ما تسمح الظروف بذلك.
وماذا عن نتنياهو؟ ما جديده على هذا الصعيد؟ بكل بساطة لا شيء. على الرغم من كل الضربات التي تلقّاها فالملاحظ انه لم يحد قيد انملة عن عقيدته السياسية التي أمضى كل حياته السياسية سعيا وراء تطبيقها والتي تتلخص ببضع كلمات: لا دولة فلسطينية مستقلة على أي جزء من فلسطين التاريخية. هو أكثر واقعية وانتهازية من ليبرمان والمتطرفين على اقصى يمينه. يعلم ان سيناريوهات الضم للأردن ومصر والتهجير الطوعي او القسري كلها غير قابلة للتطبيق. هو يريد مواصلة ذات السياسة التي اتبعها على الدوام. اخذ الزمن كحليف إسرائيل الأساسي في عملية إنهاء احتمال قيام الدولة الفلسطينية وذلك اتكالا على التغييرات على ارض الواقع والمتمثلة بالتوسّع الاستيطاني المستمر والايغال في اضعاف الشريك الفلسطيني المؤهل تمهيدا لإزاحته عن المشهد السياسي. يعلم نتنياهو ان الحرب على غزة وبالطريقة التي يدير بها دفّتها قد زادت من شعبية حماس لدى الفلسطينيين وبأنّ الحركة ستخرج من هذه المواجهة منهكة عسكريا، ولكن منتصرة شعبيا وسياسيا مما سيساعده على مواصلة لعبته المفضلة.
تغذية الانقسام بين حركة حماس التي أصبح وصمها بالإرهاب شاملا في الدول الغربية بعد عملية السابع من تشرين وبين السلطة الفلسطينية الضعيفة والمحاصرة ما يسمح لنتنياهو او لمن سيحمل شعلة عقيدته بعده بمواصلة ادعاء انتفاء الشريك والاستمرار في قضم أراضي الضفة وفرض إسرائيل كشريك دائم في أمن قطاع غزة.
لم يعد نتنياهو بحاجة لأقنعة لإخفاء سياسته القائمة على اللّا حل مع الفلسطينيين
لم يعد نتنياهو بحاجة لأقنعة لإخفاء سياسته القائمة على اللّا حل مع الفلسطينيين. فعلاوة على اعلان اعتزازه وفخره بانه السياسي الإسرائيلي الوحيد الذي واجه في السابق وبنجاح كل محاولات قيام دولة فلسطينية فهو الآن يقاوم بشراسة كل محاولات وقف إطلاق النار لإطالة امد المواجهات العسكرية ويتجنّب الحديث عن غزة ما بعد الحرب ما خلا إعلانه الواضح عن معارضته تسليم إدارة القطاع للسلطة الفلسطينية. لا بل انه في هذا المجال تجاوز كل حدود الوقاحة عندما أرسل وزير خارجيته كاتس الى بروكسيل حيث واجه نظرائه الأوروبيين باقتراح ملؤه الازدراء والعنصرية والقاضي بنقل أهالي غزة الى جزيرة اصطناعية ستنشأ، حسب ادعائه، خصّيصا لهذه الغاية قبالة القطاع في البحر المتوسط.
رؤية “حماس” تشبه بجذريتها وعدم واقعيتها طروحات اليمين الإسرائيلي للحل التي هي بالواقع نوع من أنواع تأبيد الصراع الى ان يتمكن أحد الأطراف من سحق الطرف الآخر الى حد ازالته من الوجود
اما عن الجانب الفلسطيني فقواه الرئيسية منقسمة بين رؤيتين لمآلات الصراع على فلسطين. الأولى تقودها حركة حماس، تعطي للنزاع ابعادا دينية ولا ترى له نهاية في اقل من تدمير دولة إسرائيل وإقامة دولة فلسطين الإسلامية من البحر الى النهر مع القناعة في الوقت نفسه ان الوصول الى هذا الهدف قد يقتضي القبول بهدن طويلة الأمد مع إسرائيل في مقابل مكتسبات مرحلية. هذه الرؤية تشبه بجذريتها وعدم واقعيتها طروحات اليمين الإسرائيلي للحل التي هي بالواقع نوع من أنواع تأبيد الصراع الى ان يتمكن أحد الأطراف من سحق الطرف الآخر الى حد ازالته من الوجود.
الرؤية الثانية تحملها حركة فتح او السلطة الوطنية الفلسطينية وهي تعتمد الواقعية السياسية في مقاربتها. يقتضي حل الصراع، بحسب هذه الرؤية، انشاء دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية وتضم قطاع غزة والضفة الغربية مع تعديلات طفيفة لحدود ١٩٦٧ تأخذ بعين الاعتبار الكتل الاستيطانية الأساسية. أيضا وبحسب حامليها فان هذه الرؤية تشكل اقل ما يمكن للفلسطينيين القبول به وفي الوقت نفسه فان تحقيقها يمثّل الضمانة الأساسية لوجود إسرائيل آمنة ومعترف بها. مبدأ انشاء دولة فلسطينية مستقلة لا يلقى معارضة من بعض القوى السياسية الإسرائيلية (غانتس، لابيد، بقايا يسار) التي وان لم تدخل في التفاصيل لم تتردد بعد ٧ تشرين اول بالإعلان عن حتمية الفصل الكامل بين الشعبين عبر اتاحة قيام دولة فلسطينية كشرط لإنهاء الصراع ولحصول إسرائيل على الامن المستدام.
اعادت النافذة السياسية التي فتحتها حرب غزة تسليط الضوء على مبدأ قيام الدولة الفلسطينية المستقلة كمعبر وحيد متاح لإنهاء دوامة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني
لقد اعادت النافذة السياسية التي فتحتها حرب غزة تسليط الضوء على مبدأ قيام الدولة الفلسطينية المستقلة كمعبر وحيد متاح لإنهاء دوامة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. هناك ما يشبه الاجماع الدولي على انه حان الوقت للقيام بخطوة الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية الآن وحصولها على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. هذا ما تطالب السلطة الفلسطينية بتحقيقه على الفور قبل الحديث عن تفاصيل إدارة غزة بعد الحرب ومن دون انتظار مفاوضات الحل النهائي. مثل هذا الانتصار الديبلوماسي إذا تحقّق قد يعيد الاعتبار الى السلطة الفلسطينية ويعطيها هامشا لترشيق هيكليتها ولإعادة فرض هيبتها في مواجهة حركة حماس وكذلك لتقوية موقعها التفاوضي امام أي حكومة إسرائيلية مقبلة عندما يحين موعد التفاوض للاتفاق على الحل النهائي.
للوهلة الأولى يبدو من خلال هذا الاستعراض ان حل الدولتين يمثل مفتاح انهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكله العنفي والمفتوح ويشكّل المسار الأكثر واقعية وقابلية للتحقق من كافة الطروحات الاخرى. في الواقع فان الفرق شاسع بين الاعتراف الدبلوماسي الدولي بدولة فلسطين على أهميته (١٣٩ دولة من أصل ١٩٣ تعترف بدولة فلسطين) وبين وجود فعلي لدولة فلسطينية قابلة للحياة وقادرة على ممارسة سيادتها ضمن جغرافيا متواصلة وذات حدود واضحة. وهنا يكمن مركز الصراع وتعقيداته. منذ توقيع اتفاقيات أوسلو الذي كان من المفترض ان يمهد الطريق لقيام الدولة الفلسطينية ازداد الاستيطان بنسبة ثلاثة اضعاف فقطّع اوصال الضفة الغربية ومنع الاتصال الجغرافي بين التجمعات السكانية الفلسطينية الأساسية فيها وبات يشكل المانع الأساسي والموضوعي لقيام تلك الدولة. حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ تسعينيات القرن الماضي والتي ازدادت يمينية وتطرفا عقب كل دورة انتخابية هي المسؤولة عن هذا الواقع. الحرب ستنتهي بإضعاف حركة حماس ومشروعها ولو مرحليا فيما السلطة الفلسطينية ستكون جاهزة لحل الدولتين الذي أصبح يحظى بإجماع دولي، ومع ذلك فان طبيعة اليوم التالي سيقررها الرأي العام الإسرائيلي وحتى الآن ما زالت مفاعيل ٧ تشرين غير واضحة في أي اتجاه ستأخذه: مزيد من اليمينية وتفاقم الصراع ام ميل الى العقلانية والواقعية والتسليم بتنازلات مؤلمة؟ الوقت ما زال مبكرا ولو ان اكوام الجثث ما زالت تكبر كل يوم.