"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

"الوهم القاتل" في الخلاصات "الإنتصاريّة" لنتنياهو و"حماس" من مواجهات مهّدت لحقبة السابع من أكتوبر!

ابراهيم ناصر
الأربعاء، 13 ديسمبر 2023

"الوهم القاتل" في الخلاصات "الإنتصاريّة"  لنتنياهو و"حماس" من مواجهات مهّدت لحقبة السابع من أكتوبر!

فيما لا تزال المواجهات العسكرية في ذروتها بعد شهرين من اندلاعها على امتداد قطاع غزّة بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي، تصرّ القيادة السياسيّة في الدولة العبريّة على أنّ حملتها العسكريّة لن تتوقف قبل اجتثاث “حماس” عسكريًّا من القطاع وتصفية كبار قادتها، فيما يكتنف الكثير من الضبابية نيات إسرائيل، لما بعد الحرب في غزّة والمدى الزمني الفعلي الذي وضعته لها.

لم تبرز حتى الساعة أيّة إشارات تدلّ على تراجع في دعم الرأي العام الإسرائيلي لاستمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها المعلنة، فيما بات واضحًا أنّ إطالة مدى المواجهات يصب في مصلحة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي يحارب، في الوقت نفسه وبالشراسة نفسها، على جبهة البقاء السياسي في مرحلة ما بعد صمت المدافع. يعلم نتنياهو أنّ مفتاح الذهاب بالحرب الى مداها الأقصى الذي يبتغيه يكمن في المحافظة على الضوء الاخضر الأميركي مع ما يعنيه ذلك من مواصلة الدعم الدبلوماسي واللوجستي والمعلوماتي.

ولقد بات واضحًا أنّ إدارة الرئيس بايدن لا تريد لهذه الحرب أن تتمدد إقليميًّا وأن يكون لها سقف زمني محدد، وأن تؤدي في نهاية المطاف الى تفعيل للعملية السياسية تعيد احياء مسار الحل السلمي على أساس الدولتين، بعد تأهيل السلطة الفلسطينية وتحييد حركة “حماس”. ونتنياهو يتعاطى مع هذا السيناريو كما لو كان الكابوس وقد أعدّ العدّة لمواجهته، اذ يعتبر أنّه يتمتع بما يكفي من الدهاء ويمتلك ما يلزم من الأوراق تعينه على مقاومة وصدّ ضغط الإدارة الديمقراطية، وله في تجاربه مع الرئيسين الديمقراطيين السابقين بيل كلينتون وباراك أوباما ما يكفي من الأمثلة لمواجهات صبّت في مصلحته.

على المقلب الآخر تستمرّ حركة حماس في مواجهة الغزو البرّي لغزّة وفي اثبات مقدرتها على مواصلة القصف الصاروخي للعمق الإسرائيلي موحية بأنّ انهيارها العسكري لا يزال بعيد المنال ناهيك عن إمكانية إلقاء السلاح والاستسلام في المدى القريب. ولعلّ قيادة حماس التي اختبرت نتنياهو طويلًا، وعلى مدى سنين من خلال جولات عدة من القتال، على قناعة بأن المواجهة الحالية، ولو انّها تختلف عن سابقاتها من حيث الحجم والبعد الاستراتيجي الذي اعترى ظروف اطلاقها سوء تقدير فاضح في الحسابات، سوف تنتهي بوقف دائم لإطلاق النار قبل ان تتمكن إسرائيل من القضاء على منظومة حماس العسكرية ، ما يسمح للحركة بعد انتهاء الحرب من الرسملة السياسية على صمودها لاحتلال الموقع الأول على المستوى الفلسطيني ولفرض نفسها كلاعب أساسي إقليميًّا.

لكن أمام هول ما حدث وما يحدث والاثمان الباهظة التي دُفعت من الجهتين، أليس من المرجّح ان يكون في تمنّيات الطرفين، نتانياهو وحماس، الكثير من المكابرة وأنّهما في نهاية المطاف لن يتجنبا الإفلات من دفع ثمن ما تسببا به من ويلات على شعبيهما؟

كان اسحق رابين قد تمنّى لو يسيقظ ذات يوم ويقال له بأن البحر قد ابتلع غزة!

من المفيد العودة قليلا الى الوراء لاستيضاح الصورة في هذا الموضوع.

في أيلول ٢٠٠٥، منذ قرابة عقدين من الزمن، نفّذ ارييل شارون انسحابًا من طرف واحد من قطاع غزّة بعد تفكيك المستوطنات الإسرائيلية التي كانت قائمة هناك. لفترة طويلة مثّل القطاع، الصغير المساحة والمكتظ سكانيًّا، معضلة غير قابلة للحل بالنسبة لإسرائيل وأرقًا دائمًا لقياداتها دفع اسحق رابين لأن “يتمنى لو يستفيق ذات يوم ويقال له بأن البحر قد ابتلع القطاع”. إثر الانسحاب الإسرائيلي بات كامل قطاع غزّة يخضع حصريًّا لإدارة السلطة الوطنية وحكومتها. لم يدم ذلك لفترة طويلة إذ ما لبثت حركة حماس ان انقلبت على السلطة صيف ٢٠٠٧ بعد فوزها بالانتخابات التشريعية الفلسطينية قبل عام، وفشلها على الرغم من ذلك في تشكيل حكومة فلسطينية بالتفاهم مع محمود عباس، رئيس السلطة. طردت حماس بقوة السلاح كافة عناصر فتح من قطاع غزّة وانفردت، منذ ذلك في الوقت بحكمه وشددت قبضتها على سكانه وشرعت في تطوير بنيتها العسكرية واستخدامها الأرض المحرّرة كمنصة لجولات عسكرية متكررة بينها وبين الجيش الاسرائيلي. حتى السابع من تشرين اول وقعت أربع مواجهات رئيسية بين حركة حماس وإسرائيل كانت عالية الكلفة بشريًّا وماديًّا وبشكل خاص على الجانب الفلسطيني. وبعد كل مواجهة كانت حماس تضمد جراحها وتستعيد قواها وتبرهن بين الجولة والأخرى عن قدرتها على مفاجأة إسرائيل بمستوى أعلى من التهديد والتحدّي.

المواجهة الأولى

بدأت المواجهة الأولى، “عملية الرصاص المسبوك” بالتسمية الاسرائيلية أو “الفرقان” بحسب “حماس”، في ١٧ كانون أول ٢٠٠٨ بحملة جوية عنيفة للجيش الإسرائيلي وتطورت بعد ذلك الى توغلات برية لما يزيد عن عشرة آلاف جندي طالت عمق قطاع غزة وانتهت بعد أربعة أسابيع بإعلان إسرائيل عن وقف لإطلاق النار من طرف واحد بعد ادّعائها تحقيق كامل اهداف حملتها العسكرية. اسفرت تلك المواجهة عن مقتل ١٤١٧ فلسطينيًّا وما يزيد عن ٥٠٠٠ جريح وقدّرت الخسائر المادية في غزّة بما يقرب من ملياري دولار أميركي فيما سقط عن الجانب الإسرائيلي ١٤ قتيلا و٥١٨ جريحا. كان اللافت في هذه الجولة قدرة صواريخ “حماس”، وللمرّة الأولى، على ضرب إسرائيل بعمق ٤٠ كيلومترا والوصول بها الى مدن بئر السبع وأسدود وتهديد أمن ما يقارب ٨٠٠ ألف من سكان إسرائيل ولو أنّ أعداد تلك الصواريخ اقتصرت في هذه الجولة على العشرات ليس أكثر.

المواجهة الثانية

المواجهة الثانية، عملية “عامود السحاب” بالتسمية الإسرائيلية و”حجارة سجّيل” وفق “حماس”، بدأت إثر اغتيال إسرائيل لأحمد الجعبري، نائب القائد العام لكتائب القسام من في ١٤ تشرين الثاني ٢٠١٢ ودامت ثمانية أيام. اقتصرت المواجهة من ناحية إسرائيل على ضربات جوية مركزة على بنك اهداف في غزّة فيما تمكنت “حماس” من إطلاق ١٥٠٠ صاروخ باتجاه إسرائيل. واسفرت عن مقتل ١٦٥ فلسطينيا وما يزيد عن ١٢٢٠ جريح ومن الجانب الإسرائيلي سقط ٦ قتلى و٢٤٠ جريحا. إثر الإعلان عن وقف إطلاق النار اكتفت القيادة الإسرائيلية بالتصريح على انها حققت ما كانت تبتغيه من العملية العسكرية فيما سارعت قيادات “حماس” إلى إعلان الانتصار، اذ اعتبرت الحركة وقف إطلاق النار خضوعًا إسرائيليًّا لمطالبها.

المواجهة الثالثة

المواجهة الثالثة بين “حماس” وإسرائيل، كانت ضمن “عملية الجرف الصامد” وفق التسمية الإسرائيليّة أو “العصف المأكول” بحسب “حماس”. بدت هذه المواجهة الأشدّ فتكًا وضراوة والأطول زمنيًّا ، اذ استمرّت على امتداد شهري تموز وآب ٢٠١٤ واسفرت عن مقتل ٢١٨٩ فلسطينيًّا وما يزيد عن أحد عشر ألف وقدرت الخسائر المادية بما يقرب من ٦ مليار دولار أميركي، ومن الجانب الإسرائيلي سقط ٧١ قتيلًا و٨٤٠ جريحًا. كشفت “حماس”، في هذه المواجهة عن تطور ملحوظ في قدراتها القتالية من مثل نجاحها خلال المواجهات على تنفيذ إنزال كوماندوس خلف خطوط العدو. كما انها أدخلت الى المعركة أنواعًا أكثر تطورًا من الصواريخ لناحية الدقة والمدى حيث باتت تطال كل إسرائيل. واللافت أيضًا في هذه المواجهة كان استخدام “كتائب القسّام”، ولأول مرة، لمسيّرات من أنواع عدة، وهي بغالبيتها من انتاج مشاغل “حماس” داخل غزة.

المواجهة الرابعة

المواجهة الرابعة، “حارس الأسوار”، بالإسم الإسرائيلي أو “سيف القدس” بحسب “حماس”، ودامت أحد عشر يومًا، وبدأت مساء العاشر من أيّار ٢٠٢١، بمبادرة من “حماس”، بعد الإنذار الذي وجهته الى إسرائيل بضرورة إخلاء جيشها لساحات المسجد الأقصى. اقتصرت العملية على الضربات الجوية على غزّة وعلى الرشقات الصاروخية لحماس على إسرائيل والتي طالت هذه المرة مدينة القدس. أسفرت تلك المواجهة، التي أطلقت حماس خلالها على إسرائيل ما مجموعه ٤٣٥٠ رشقة صاروخية، عن مقتل ٢٤٨ فلسطينيًّا وما يزيد عن ١٩٥٠ جريحًا فيما قدرت الخسائر المادية بما يقرب من ٥٧٠ مليون دولار أميركي امّا عن الجانب الإسرائيلي فقد سقط ١٢ قتيلًا و٣٣٠ جريحًا.
إثر انتهاء الاعمال العسكرية أعلن رئيس الوزراء نتنياهو ان العملية أحدثت اضرارًا كبيرة في قدرات “حماس” على إطلاق الصواريخ وان المعادلة مع “حماس” قد تغيرت كليًّا بعد اعادة الحركة سنين الى الوراء. إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس اعتبر انّ المواجهة الأخيرة شكلت نجاحًا عسكريًّا للمقاومة وجزم بأنّ “حماس” سوف تعيد سريعًا بناء قدراتها كما توجه بالشكر الى إيران التي لم تبخل بالمال والسلاح والتقنيات.

اللافت في هذه المواجهة ما رافقها من اضطرابات على نطاق واسع في مدن وقرى الضفة الغربية ومن انتفاضة غير مسبوقة للفلسطينيين داخل حدود ١٩٤٨ مما فاجأ، الى حد بعيد، القيادة السياسية في إسرائيل.

خلاصات “حماس” الخاطئة

اثبت سياق الاحداث أنّ حركة حماس كانت في كل مرة تخرج من جولات العنف مع إسرائيل أكثر تأثيرًا على فلسطينيي الضفة وأكثر امساكًا بسكان غزّة وأكثر اطمئنانًا على وجودها. بعد كل مواجهة، أشهر معدودة فقط كانت تكفيها لإعادة بناء وتطوير قدراتها العسكرية والاستعداد للجولات التالية. اما الاثمان الباهظة التي كان يقدمها الغزّويون من حياتهم ورزقهم وملكهم وامنهم ومستقبلهم فذلك كلّه لم يكن يدخل ضمن اهتمامات تنظيم عسكري إيديولوجي لا دولتي يعتبر نفسه في مهمة مقدسّة ولا يقيم اعتبارًا لأمن ورفاهية الشعب الذي يسيطر عليه، ذلك أنّ “حماس” تفضل ان تحيل مثل هذه الأمور التفصيلية اما الى السلطة الوطنية او الى لمجتمع الدولي ومنظماته.

لا بد من أنّ حركة حماس، وهي تباشر بتنفيذ عملية ٧ تشرين كانت تعتبر انّها تحقق نقلة نوعية في مستوى المواجهة مع إسرائيل وأنّ مكاسبها من الجولة الجديدة التي فتحتها سوف تكون أيضًا على المستوى نفسه من الاستثنائية.

ولكن، لقد تبيّن باكرًا أنّه حصلت أخطاء فادحة في التقدير وأن الاحداث تطورت بغير الاتجاه الذي كان مخططًا لها. والنتيجة انه سوف تنتهي هذه الحرب ويكون قد حلّت بقطاع غزّة وسكّانه نكبة كبرى ربما لم يشهد مثيلًا لها في تاريخه وأنّ “حماس”، وفي حال لم تتحطّم بنيتها العسكرية بالكامل فإنها على الأقل ستخرج شديدة الانهاك ولن تكون لها قدرة السيطرة المطلقة من جديد على القطاع علاوة على انه لن يسمح لها بذلك.

التفاؤل الإسرائيلي..المتورّم

على الطرف الآخر، بات من شبه المؤكد انّ الحرب الدائرة حاليا على غزّة سوف تكون مرتفعة الكلفة وهي لن تنتهي بنصر حاسم لمصلحة إسرائيل علاوة على التحدّي الذي يمثّله “حزب الله” على جبهتها الشمالية والذي لا بد من التعامل معه قبل توقف الاعمال العسكرية وأيضا من دون نتائج حاسمة ومضمونة. ان استشراف نتائج العمليات العسكرية لا توحي بأنّه سوف يكون لبنيامين نتنياهو ما يقدمه للإسرائيليين لمحو آثار صفعة ٧ تشرين واستعادة قدرات الدولة العبرية الردعية. لسنين طويلة روّج نتنياهو امام شعبه لبضاعة فاسدة. أوحى لهم بأنّه رجل أمن الإسرائيليين من دون منازع وضامن تفوق قوة دولتهم. طمأنهم على أنّ مواجهاته المتكررة مع “حماس” قد ادّت الى ترويض الحركة نهائيًّا فيما “حزب الله” مرتدع في الشمال منذ زمن طويل. نجح في اقناع غالبية الرأي العام بأنّ بهلوانياته السياسية سوف تأتي لهم بالسلام والتطبيع مع كل الدول العربية والإسلامية من دون أي نوع من التنازل في الموضوع الفلسطيني، ومع السلام المزيد من الازدهار. في ٧ تشرين انكشف زيف ما روّج وعمل له نتنياهو طويلًا ولن تنجح الحرب الدائرة حاليًّا، ومهما طالت، في إنقاذه وإبعاد يوم الحساب عنه. فلا بد من ان ينقلب السحر عل الساحر لمن رفض على الدوام التعامل مع سلطة وطنية شرعية وذلك بهدف طمس حقوق الفلسطينيين المشروعة وفضّل عليها التواطؤ مع منظمة مسلّحة لا دولتية.

من المؤكد أنّ نتنياهو لن ينجو من حكم الرأي العام الإسرائيلي ولا من لجان التحقيق والمحاكم. ولكن هل يؤمل على الجانب المقابل أن نشهد بداية أفول التنظيمات المسلحة اللا دولتية التي تتسبّب منذ سنين بالخراب والمآسي والنكبات للشعوب التي تتحكم بها بدءًا بحماس وصولًا إلى “حزب الله” وسائر الميليشيات التي تنمو على جثث الدول؟

المقال السابق
الحوثيون "يتفنّنون" في استهداف بواخر النقل في البحر الأحمر
المادة التالية
هل يفعلها بايدن؟

ابراهيم ناصر

باحث سياسي واجتماعي

مقالات ذات صلة

"المرأة الغامضة" وراء الشركة المرخصة لأجهزة "البيجر" المتفجرة

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية