مع مرور سنة على زلزال ٧ تشرين نضع بين ايدي قرّائنا هذه الدراسة الشاملة للباحث إبراهيم ناصر.دراسة تتناول الظروف التي أنتجت، وفق ما يورده من معطيات، هذا الانفجار الكبير.
الطريق الى ٧ تشرين.. من وعود أوسلو الى يأس الطوفان ( الجزء الأوّل)
الطريق الى 7 تشرين ( الجزء الثاني)..أعداء أوسلو ينظمون صفوفهم ويوجهون الضربات الأولى
الطريق الى 7 تشرين ( الجزء الثالث)..تناغم “التطرفَين” وتضييع فرصة الحل الدائم
لقد أخرجت مفاوضات كامب دايفيد الى العلن مواضيع ذات حساسية عالية لدى الجمهورين الإسرائيلي والفلسطيني من دون النجاح في التوصل الى حسمها. وفي هذا الجو الذي اعتبرت فيه غالبية الرأي العام الإسرائيلي ان باراك تجاوز الكثير من الخطوط الحمر في تنازلاته، قرّر اليمين بزعامة ارييل شارون التقاط الفرصة لإسقاط الائتلاف الحاكم واستعجال انتخابات عامة مبكرة للعودة الى السلطة. على الجانب الفلسطيني وصل الاحتقان الشعبي الى ذروته بعد ما لمس ان التنازلات عن حقوقه التاريخية وقبوله بالحد الأدنى لم يقابله من الجانب الإسرائيلي الاّ مزيد من الاطماع بما تبقى للفلسطينيين من فتات حقوق. في أواخر أيلول ٢٠٠٠ قام ارييل شارون بزيارة استفزازية الى ساحة المسجد الأقصى مطلقا معها شرارة الانتفاضة الثانية التي ستشهد احداثها على الموت النهائي لمسار أوسلو.
في أواخر أيلول ٢٠٠٠ قام ارييل شارون بزيارة استفزازية الى ساحة المسجد الأقصى مطلقا معها شرارة الانتفاضة الثانية التي ستشهد احداثها على الموت النهائي لمسار أوسلو
في اليوم التالي على زيارة شارون الى ساحة المسجد الأقصى ومن نفس المكان انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية وانتشرت كالنار في الهشيم لتشمل كامل الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطينيي ١٩٤٨ داخل إسرائيل. الردّ الإسرائيلي تميّز بالعنف الشديد وبحملة قمعية أودت، وقبل مرور شهر واحد على بداية الاضطرابات، بحياة العشرات من الفلسطينيين ناهيك عن مئات المعتقلين. لم ينتج عن القمع الإسرائيلي غير المزيد من التصعيد والذي تمثّل بشكل خاص بافتتاح حركتي حماس والجهاد الإسلامي لموجة طويلة وغير مسبوقة من العمليات الانتحارية والتفجيرية هزّت امن إسرائيل. وفيما كان وفدا السلطة وإسرائيل يحققان على الورق تقدما واضحا في مفاوضات الحل النهائي في طابا، جرّ الميدان ياسر عرفات الى مواكبة انتفاضة شعبه فيما غرق ايهودا باراك بهواجس إسرائيل الأمنية، ولم يتجرّأ الزعيمان في مثل هذه الأجواء على الاقدام على الترجمة العملية لنتائج المفاوضات التي طويت صفحتها الى اجل بعيد.
تميّزت الإنتفاضة الثانية بافتتاح حركتي حماس والجهاد الإسلامي لموجة طويلة وغير مسبوقة من العمليات الانتحارية والتفجيرية هزّت امن إسرائيل
كان ايهودا باراك قد أعلن في ٥ كانون اول ٢٠٠٠ عن استقالته من منصبه ودعا الى انتخابات عامة مبكرة. رفض الكنيست حلّ نفسه واقتصرت الانتخابات على منصب رئيس الوزراء فقط حيث انحصرت المبارزة بين باراك وشارون. مرة جديدة لعب اهتزاز امن الإسرائيليين دوره الحاسم في صناديق الاقتراع. جاءت النتيجة في السادس من شباط ٢٠٠١ شديدة الوضوح لناحية انقلاب الرأي العام الإسرائيلي نحو التشدّد وذلك بفوز شارون الكاسح وحصوله على ٦٣ بالمئة من الأصوات على قاعدة استحالة تقسيم القدس وموت مسار أوسلو والجنوح صوب استخدام القوة كأفضل وسيلة للتعامل مع الفلسطينيين. على الجانب الآخر وجد ياسر عرفات نفسه عالقا بين آماله في استثمار غضب شعبه لتحسين شروط الحل الدائم وبين اللحاق بحماس في عسكرة الانتفاضة. سوف لن يسمح له شارون باللعب طويلا على هذا التناقض. انخرط عرفات بالانتفاضة الفلسطينية المسلحة عبر ما عرف بالتنظيم بقيادة مروان البرغوتي، ولكن من دون الذهاب الى اعتماد أسلوب العمليات الانتحارية الذي تميّزت به حركتا حماس والجهاد الإسلامي.
لعب اهتزاز امن الإسرائيليين دوره الحاسم في صناديق الاقتراع، وجاءت النتيجة في السادس من شباط ٢٠٠١ شديدة الوضوح لناحية انقلاب الرأي العام الإسرائيلي نحو التشدّد وذلك بفوز شارون الكاسح
فور تسلمه السلطة عمل شارون على اعتماد بطش القوة العسكرية الكاسحة لقمع الانتفاضة تمهيدا لإخمادها. كان لشارون هدف آخر من استخدام القوة لا يقل أهمية وهو خلق وقائع جديدة على الأرض تُنهي الى غير رجعة أي امل بحل سياسي مبني على مبادئ أوسلو ما يسمح له لاحقا بفرض الحلول من طرف واحد ومن موقع المنتصر. أعاد لقواته حرية الدخول والخروج الى كافة المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية واتخذ أيضا قرار التخلّص من رمز القضية الفلسطينية ياسر عرفات. راودته فكرة اغتياله ولم يثنه عنها سوى التبعات السياسية الثقيلة لمثل هذا الفعل. قرّر التحرك بتدرج. فرض على أبو عمار حصارا في مقر قيادته في رام الله وصار يشدّد الخناق عليه يوما بعد يوم. هكذا عزله عن محيطه ومنعه من التواصل مع العالم الخارجي للدفاع عن قضيته. استغل شارون احداث ١١ أيلول لمصلحته أفضل استغلال فألصق بياسر عرفات صفة الإرهاب ونجح في تسويقها لدى إدارة الرئيس جورج بوش الذي انتهى بالإعلان عن سحب الشرعية عن الزعيم الفلسطيني والدعوة الى استبداله. لحق ببوش العديد من الزعماء الغربيين وازداد الضغط على الزعيم الفلسطيني من كل الجهات ما أثمر تنازلا جزئيا عن صلاحياته لمصلحة رئيس حكومة تم استحداث موقعه على عجل تسلمه لأول مرة محمود عباس. لم يستسلم المقاتل العتيق ياسر عرفات لقدره. لقد احتفظ لنفسه بكامل الصلاحيات على الاجهزة الأمنية وظل يراهن وحتى اللحظة الأخيرة بتبدل في الظروف يسمح بفك الحصار الميداني ثم السياسي عنه. أشهر قليلة والم بالزعيم الفلسطيني مرض مشبوه المصدر صعب التشخيص قيل فيما بعد انه ناتج علن التسمم بالبلوتونيوم توفي على أثره في أحد المستشفيات العسكرية في باريس بعد ان سمح له شارون بمغادرة الأراضي الفلسطينية مع علمه الضمني انه لن يعود حيّا الى فلسطين.
فور تسلمه السلطة اتخذ أرييل شارون قرار التخلّص من رمز القضية الفلسطينية ياسر عرفات
ادّى التخلّص من ياسر عرفات وبالشكل الذي جاء فيه الى اذلال السلطة الفلسطينية واضعاف هيبتها امام الفلسطينيين الذين باتوا يميلون باضطراد نحو حركة حماس ومقاربتها الراديكالية للصراع مع إسرائيل. حلّ محمود عباس مكان ياسر عرفات على رأس السلطة الفلسطينية. اعتبرته إدارة بوش شريكا جديا ومعتدلا غير انها اثقلته بالمطالب ذات الطابع الأمني دافعة إياه باتجاه الاصطدام الأمني مع حماس من دون تحصينه باي افق سياسي واضح وذو مصداقية مما زاد من اضعافه على المستوى الشعبي.
ادّى التخلّص من ياسر عرفات وبالشكل الذي جاء فيه الى اذلال السلطة الفلسطينية واضعاف هيبتها امام الفلسطينيين الذين باتوا يميلون باضطراد نحو حركة حماس ومقاربتها الراديكالية للصراع مع إسرائيل
كان شارون قد بدأ ومنذ منتصف ٢٠٠٣ بالكشف عن رؤيته للحل الأحادي الذي ينوي فرضه على الفلسطينيين. الانسحاب الكامل من طرف واحد من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات فيه وتكريس الفصل الجغرافي بين الضفة والقطاع تمهيدا لحلول سياسية مختلفة لكل منهما والتحضير للإقدام على هذه الخطوة من دون التفاوض او التنسيق مع السلطة الفلسطينية. مقابل نيته الانسحاب من غزة تمكن شارون من انتزاع اعتراف مكتوب من إدارة بوش بحق إسرائيل بالاحتفاظ بالتكتلات الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية من دون أي التزامات سياسية إسرائيلية محدّدة تجاه الفلسطينيين. على الرغم من المعارضة الشديدة من داخل حزبه، الليكود، مضى ارييل شارون بخطته للانسحاب الأحادي من غزة التي حظيت بدعم من غالبية الرأي العام الإسرائيلي والتي نفّذت بالكامل خريف عام ٢٠٠٥. وفيما بدا تحولا في مقاربته للحل مع الفلسطينيين يقوم على الانفصال عنهم في الضفة الغربية أيضا ابتعد شارون عن حزب الليكود واسّس حزب كاديما مقررا الذهاب الى انتخابات عامة طلبا لتفويض شعبي جديد يسمح له بالمضي في سياسته الجديدة تجاه الفلسطينيين. أزاحته ذبحة دماغية مفاجئة وضعته في الكوما عن الساحة السياسية فحلّ مكانه ايهود أولمرت.
على الرغم من المعارضة الشديدة من داخل حزبه، الليكود، مضى ارييل شارون بخطته للانسحاب الأحادي من غزة التي حظيت بدعم من غالبية الرأي العام الإسرائيلي والتي نفّذت بالكامل خريف عام ٢٠٠٥
في بداية حياته السياسية كان أولمرت من اشد المعارضين لأي انسحاب من الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام ١٩٦٧ وكان من الذين وقفوا في وجه مناحيم بيغن وصوّت ضده عندما وافق الأخير على الانسحاب من سيناء مقابل السلام مع مصر. تغيرت قناعاته مع مرور الزمن هو القائل في ما بعد: “لقد قلت حينها لبيغن بأن ما يفعله (الانسحاب من سيناء) هو بمثابة خطأ تاريخي … الآن اتأسف ان لا يكون على قيد الحياة ليسمعني اعترف علنا بحكمته وبخطئي. كان محقا وكنت على خطأ”. وفي مقابلة له مع صحيفة هآرتس في كانون الثاني عام ٢٠٠٦ صرّح أولمرت:” الخيار بين السماح لليهود بالعيش على كامل ارض إسرائيل او الحياة ضمن دولة تقطنها غالبية يهودية يدفعنا للتنازل عن أجزاء من ارض إسرائيل” ومبديا رغبته في تثبيت الحدود النهائية مع الفلسطينيين. على هذا الأساس وبغياب شارون ذهب أولمرت الى الانتخابات المبكرة أواخر آذار على رأس كاديما الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد بالتوازي مع انهيار انتخابي لليكود بزعامة نتنياهو. شكّل أولمرت حكومته ووضع على رأس أولوياتها التوصّل في أسرع وقت الى اتفاق للحل الدائم مع الفلسطينيين.
في ذلك الوقت ومنتشية من نجاحها من غزو ها السريع للعراق واسقاط نظام صدّام حسين بدأت الإدارة الأميركية بزعامة جورج بوش تبشّر بشرق أوسط جديد وبإحلال الديمقراطية في دوله. وفي هذا الإطار مارست تلك الإدارة ضغوطها على السلطة الفلسطينية لحملها على إجراء انتخابات تشريعية مشددة على عدم اقصاء حركة حماس من المشاركة فيها في ظل اعتقاد عام بفوز حركة فتح بالأغلبية. لقد دلّت الانتخابات البلدية التي جرت عام ٢٠٠٥ عن شعبية كبيرة لحركة حماس داخل الشارع الفلسطيني وبخاصة في قطاع غزّة. لذلك لم يشاطر الرئيس الفلسطيني تفاؤل ومثالية الإدارة الأميركية. عاجزا عن مقاومة رغبات الاميركيين ذهب عباس مرغما الى الانتخابات والتي جرت أواخر كانون الثاني ٢٠٠٦ واتت نتائجها صادمة بفوز مريح لحركة حماس بأغلبية واضحة لمقاعد المجلس الوطني الفلسطيني. لم يشترط الرئيس الفلسطيني على حماس من اجل السماح لها بالمشاركة في الانتخابات واحتمال مشاركتها في السلطة بقبول التزامات السلطة ومنظمة التحرير تجاه إسرائيل والعملية السلمية وهي كانت سترفضها في كل الأحوال ولا الولايات المتحدة تحوطت لإمكانية فوز منظمة تصنفها بالإرهاب ولا مجال بالتالي للتعامل معها.
الإدارة الأميركية تضغط من أجل انتخابات تشريعية ضمن مناطق السلطة الفلسطينية وتشترط مشاركة حماس التي سوف تصدم الجميع وتحقق فوزًا كبيرا مكنها من تشكيل حكومة واجهت حصارا غربيا خانقا
كان لا بد لمحمود عباس وعلى ضوء نتائج الانتخابات من تكليف إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة الفلسطينية. وما ان أعلن عن هذه الحكومة حتى تعرضت لحصار مالي وديبلوماسي غربي خانق. كذلك أدى تشكيلها الى توقف أي شكل من اشكال التفاوض على الحل الدائم. وصلت حكومة حماس سريعا الى الحائط المسدود فحلّت مكانها حكومة وحدة وطنية بدت أكثر مقبولية عربيا ودوليا. لم يكن ذلك رأي الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية. للخروج من مأزق حماس التي ساهمت تلك الإدارة في الوصول اليه وضعت هذه الأخيرة مخططا جهنميا للقضاء على حماس في غزة بواسطة القوة العسكرية تمهيدا لانتخابات جديدة من دونها وتطوع لهذه المهمة رجل فتح القوي في القطاع محمد دحلان الذي كان الرئيس بوش يصفه ب”رجلنا” كلما كان يذكر اسمه امامه في ذلك الوقت. لهذه الغاية تمّ تأمين موارد مالية ضخمة قدّرت بعشرات ملايين الدولارات مصدرها بعض الدول الخليجية لتجهيز آلاف من عناصر الشرطة الفلسطينية في غزة أشرف على تدريبهم ضباط اميركيون وتم تجهيزهم بعتاد وعربات حديثة وافقت إسرائيل على إدخالها الى غزة. لكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر. تنبهت حماس لما كان يحاك ضدها وقامت بين ١٢ و١٤ حزيران ٢٠٠٧ بتنفيذ عملية امنية استباقية مستغلّة غياب دحلان عن غزّة لدواع صحية واحكمت سيطرتها بالقوة على قطاع غزّة بعد قتلها العديد من قادة فتح وطرد من تبقى الى الضفة.
على الرغم مما اضافته احداث غزة من تعقيدات على الساحة الفلسطينية قرّر أولمرت تكثيف مفاوضات الحل النهائي مع محمود عباس بتشجيع من الرئيس بوش الذي استضاف انطلاق المحادثات في قمة جمعته في انابوليس مع الزعيمين الإسرائيلي والفلسطيني أواخر تشرين ثاني ٢٠٠٧.
فماذا حصل؟
( يتبع جزء خامس وأخير: عصر نتنياهو الطويل وتيئيس الفلسطينيين)