مرّ عام كامل على زلزال ٧ تشرين لأول ولا تزال ارتداداته العنيفة تتوالى ، فيما لن تتضح قبل فترة طويلة المعالم الجديدة للمنطقة. لكن ما يبدو واضحًا، أنّ ٧ اكتوبر قد سمح للقوة العسكرية الإسرائيلية الهائلة بالتفلّت من كل قيد أخلاقي وانساني وقانوني، للانقضاض بوحشية لا سابق لها، على أيّ هدف تعتبره مشروعا، مهما كان نوعه وحجمه وموقعه. هكذا وخلال أشهر متواصلة من الدكّ الناري المكثّف حولّت الآلة العسكرية الإسرائيلية وبتوجيه من قيادتها السياسية قطاع غزة الى مقبرة جماعية وجبال من الرّكام والى ارض محروقة. وفي الوقت الذي تستمر فيه بضرب ما تتبقى من مظاهر الحياة في هذا القطاع الفلسطيني، بدأت إسرائيل في التركيز على حزب الله ، بحيث تضرب بكثافة نيران غير مشهودة وبنتائج صادمة، الجسم العسكري للحزب، تسليحا وهيكلية وقيادة، غير عابئة بالخسائر المدنية، ارواحا وارزاقا. لم يعد معلوما اين ومتى ستتوقف هذه الآلة وعند اي حدود في ظلّ الدعم اللامحدود لها من الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الأقوى على وجه الأرض، وفي ظل انتشاء القيادة السياسية الإسرائيلية بما تم تحقيقه في الميدان حتى تاريخه.
مع مرور سنة على زلزال ٧ تشرين نضع بين ايدي قرّائنا هذه الدراسة الشاملة للباحث إبراهيم ناصر. دراسة تتناول الظروف التي أنتجت، وفق ما يورده من معطيات، هذا الانفجار الكبير.
*بدايات أوسلو: حلم السلام يبدو قابلا للتحقيق
أذا وضعنا جانبا ما نسميه القوى الالغائية (وهي من الجهة الفلسطينية تتمثل في تلك التي لا ترى حلا في فلسطين إلّا بتدمير دولة إسرائيل، وترمز إليها من الجهة الإسرائيلية تلك القوى التي لا تعترف بوجود الشعب الفلسطيني وتعتبر ان الضفة الغربية جزءا من دولة إسرائيل) وبحثنا عن المعادلة الكفيلة بالوصول بالصراع الفلسطيني الى نهاية سلمية، فإننا نقع على فكرة ترددت على السنة العديد من القادة الدوليين- وما اكثرهم - ممّن انغمسوا في محاولات لم تنجح الى اليوم في انهاء هذا الصراع المزمن. وهذه المعادلة كان قد عبّر عنها أفضل تعبير الأمير بندر بن سلطان عام ٢٠٠٣ يوم كان سفيرا للسعودية في واشنطن في كلمة له أمام مؤتمر رؤساء البلديات حين قال:” أمران برأيي يشكلان القاعدة لأي حل للمسالة الفلسطينية. الأول هو انه لن يكون هناك من حلّ يرضي الفلسطينيين ما لم يضمن هذا الحل أمن الشعب الإسرائيلي. الثاني هو انه لن يتمتّع الشعب الإسرائيلي بالأمن ما لم تُلبّ التطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني. هذان ركنان ثابتان لأي حل وذلك مهما تقلّبت أحوال منطقة الشرق الأوسط”. معادلة تبدو في الظاهر شديدة البساطة، ولكن تراكم الخيبات على مرّ السنين خلال البحث عن حل دائم يرضي كل الأطراف، اظهرها معادلة في غاية الصعوبة. منذ انطلاق مسار أوسلو، حيث وللمرة الأولى منذ ان تشكلت الهوية الوطنية الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير، وُضع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل جدّي على مسار الحل وفقا لهذه المعادلة التي تخضع منذ ذلك الحين لاختبار تلو الآخر اثبتت الاحداث الى يومنا هذا ان التوفيق بين متطلبات هذه المعادلة كان صعب المنال.
بدفع من زخم مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط الذي نجحت الدبلوماسية الأميركية بقيادة الرئيس جورج بوش الاب في إطلاق مساراته وذلك إثر نجاح التحالف الدولي بقيادته في تحرير الكويت ولوي ذراع صدام حسين، قفز، وبشجاعة قلّ ما يتمتّع بها القادة السياسيون، كلّ من اسحق رابين، رئيس وزراء إسرائيل وياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الى مركب أوسلو مع ادراكهما المسبق للمخاطر العالية لذلك. المراهنة تستحق عناء المغامرة وقد اجتمعت مبرراتها عند الطرفين في توقيت متزامن.
كان رابين يبحث عن مخرج من انتفاضة الحجارة التي انطلقت في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي في وجه الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد يأس الفلسطينيين من الكفاح المسلح من خارج فلسطين. لقد أظهرت تلك الانتفاضة حدود القوة العسكرية المتطورة في وجه أطفال يتسلحون بالحجارة وبأبسط أدوات التعبير وبإرادة صلبة في مقاومة المحتل. كما القت تلك الانتفاضة الضوء على عقم الامعان في انكار حقوق الشعب الفلسطيني وفي تطويعه بالقوة الى ما لا نهاية فضلا عن تأثيرها السلبي على سمعة إسرائيل في العالم، هي الدولة التي تتغنّى بانها تشترك مع الدول الغربية بكل قيمها الأخلاقية والثقافية وتعتبر نفسها جزءا من منظومتها.
بالنسبة لرابين لي س هناك أفضل من أبو عمار، رمز الهوية الوطنية الفلسطينية، للحصول في المدى القصير على تهدئة الشارع الفلسطيني في مقابل انطلاق مسار حصول الفلسطينيين على حقوقهم السياسية وليخوض معه لاحقا غمار عملية سياسية معقدة قد تؤدى في نهاية المطاف الى حل نهائي مع الفلسطينيين يضمن امن إسرائيل ضمن حدود ثابتة يقبل بها الطرف الفلسطيني.
أبو عمار من جهته كان يعاني مع منظمة التحرير من عزلة سياسية شديدة عربية ودولية ومن اختناق مالي لم يشهد مثيلا له خلال كل مسيرته السياسية وذلك بسبب رهانه القاتل على صدام حسين ودعمه للأخير في غزوه لدولة الكويت. كان لا بد لابي عمار من التقاط فرصة مؤتمر مدريد وحاجة الإسرائيليين لشرعيته امام الشعب الفلسطيني لفتح التفاوض المباشر مع القيادة الإسرائيلية. الاتفاق معهم سيتكفل بفك عزلته الدولية ويضعه من جديد تحت الاضواء السياسية ويعيده الى ارض فلسطين بعد عقود من الابتعاد ويقربه من حلمه في بناء الدولة الفلسطينية المستقلة.
في هذه الأجواء انخرط الطرفان في مفاوضات أوسلو السرية التي ادّت الى المصافحة الشهيرة في حديقة البيت الأبيض في ١٣ أيلول ١٩٩٣ بين عرفات و رابين والى التوقيع على اتفاقية اعلان المبادئ (أوسلو ١) برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
فتح هذا الاختراق السياسي نافذة تاريخية باتجاه حلّ نهائي للصراع العربي الإسرائيلي المزمن والمتشعّب خاصة وانه ترافق مع انطلاق مسارات التفاوض المنبثقة هي أيضا عن مؤتمر مدريد بين إسرائيل من جهة وسوريا ولبنان والأردن من جهة ثانية. المسار الأردني وصل الى خواتيمه بالتوقيع في ٢٦ تشرين اول ١٩٩٤ على اتفاق السلام الذي عرف باتفاق وادي عربة فيما وصلت المفاوضات مع سوريا الى مراحل متقدّمة جدا في عدة محطات لها وإن لم تؤد في نهاية المطاف الى أي اختراق.
ومما لا شك فيه ان توقيع أوسلو، وبالتوازي مع انطلاق المسارات التفاوضية الأخرى، قد شكّل في حينه دينامية جديدة وقوية لصالح قوى السلام في المنطقة واشاع أجواء من التفاؤل العام بولوج منطقة الشرق الأوسط أخيرا عصرا جديدا تستبدل فيه الحروب بالسلام والازدهار والتعاون الإقليمي.
في الظاهر بدا اعلان المبادئ متوازنا في مضمونه وفتح الباب امام إمكانية قيام دولة فلسطينية تجمع بين الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد نصّ الاتفاق على التبادلية في الاعتراف بالحقوق المشروعة والسياسية للطرفين (مقدمة الإعلان) وعلى فترة انتقالية لا تتعدى الخمس سنوات تنتهي بالتوصل الى اتفاق نهائي بين الطرفين على أساس قراري مجلس الامن الدولي ٢٤٢ و٣٣٨. كذلك نصّ الإعلان على ان مفاوضات الحل النهائي التي ستبدأ كحد اقصى مع بداية السنة الثالثة للمرحلة الانتقالية والتي سوف تتناول كافة المسائل العالقة وتحديدا القدس، اللاجئين، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، والحدود. كما نصّ الإعلان على الوحدة الجغرافية بين الضفة الغربية وقطاع غزة وعدم تغيير الواقع على الأرض خلال الفترة الانتقالية (مسألة الاستيطان) وعلى انشاء شرطة فلسطينية قوية تتولى ضمان النظام العام وتحفظ امن الفلسطينيين بينما تستمر إسرائيل في الاضطلاع بمسؤولية الدفاع ضد التهديدات الخارجية، وكذلك بمسؤولية الأمن الإجمالي للإسرائيليين. وورد في الإعلان ضرورة التفاوض لاحقا للاتفاق على تفاصيل المرحلة الانتقالية والتي سوف تركز بشكل خاص على ترتيبات بناء السلطة (انتخاب المجلس ورئيس السلطة) ومؤسساتها من أجهزة امنية وقضائية وإدارية وتنظيم انتقال الصلاحيات الى تلك المؤسسات.
مما لا شك فيه ان توقيع أوسلو، وبالتوازي مع انطلاق المسارات التفاوضية الأخرى، قد شكّل في حينه دينامية جديدة وقوية لصالح قوى السلام في المنطقة واشاع أجواء من التفاؤل العام بولوج منطقة الشرق الأوسط أخيرا عصرا جديدا تستبدل فيه الحروب بالسلام والازدهار والتعاون الإقليمي
باستثناء الانسحاب الإسرائيلي من غزة ومن اريحا ومحيطها في الضفة صيغ الإعلان بشكل لا يثقل الجانبين وبشكل خاص الإسرائيلي بالتزامات محدّدة فورية. غير ان أهميته تكمن في انه وضع، بناء على مبادئ عامة ترضي الطرفين، خارطة طريق واضحة ذات جدول زمني محدد من المفترض ان تؤدي عند اكتمالها الى حل نهائي للصراع بعد ان تكون المرحلة الانتقالية قد هيأت الظروف لبلوغ هذا الهدف. ولكن سوف تبيّن الاحداث لاحقا ان نقطة ضعف الإعلان وكعب أخيل مسار أوسلو هو تحديدا في المرحلة الانتقالية. فما لم يتم التوصل من خلالها الى تفاهمات نهائية لا رجوع عنها فان العودة الى نقطة الصفر تبقى واردة في اية لحظة.
كما تمت الإشارة اليه فقد حدد نص الإعلان مدة المرحلة الانتقالية بفترة خمس سنوات تبدأ بعد الاخلاء الإسرائيلي لقطاع غزة (باستثناء المستوطنات والقواعد العسكرية) ومدينة اريحا ومحيطها وتسليم الإدارة للسلطة الفلسطينية وهو ما تم إنجازه خلال شهر أيار ١٩٩٤ ولو بتأخير لنحو أربعة أشهر عن الجدول الزمني المتفق عليه في اعلان المبادئ. وان بدت طويلة تبقى هذه مدّة الفترة الانتقالية موضوعية نظرا الى ما تتطلّبه جهود بناء السلطة الفلسطينية ومؤسساتها وبالنظر ايضا للوقت اللازم لاختبار النوايا بين الفريقين اللذين كانا من الدّ الأعداء عشية التوقيع على الإعلان. وللمقارنة فقد استغرق الوصول الى الانسحاب الإسرائيلي الكامل من شبه جزيرة سيناء حوالي الخمس سنوات ابتداء من تاريخ خطاب الرئيس السادات امام الكنيست الإسرائيلي في ١٩ ت٢ من سنة ١٩٧٧. والفرق شاسع بين ما يتطلّبه التعامل مع دولة كبيرة وعريقة مثل مصر على مسألة واضحة ومحددة مثل استعادة سيناء مقابل السلام مع إسرائيل وبين التصدّي لصراع وجودي مزمن بين الإسرائيليين والفلسطينيين يختلط فيه الديني بالسياسي ويراكم عقودا من المواجهات اليومية الدامية ومن الأحقاد المتبادلة والنفي الكلي لكل طرف بحق الطرف الآخر بالوجود.
الجزء الثاني: أعداء أوسلو ينظمون صفوفهم ويوجهون الضربات الأولى
إبراهيم ناصر- باحث لبناني مقيم في باريس