ادّت الحرب التي تخوضها إسر ائيل منذ ما يقارب الأربعة عشر شهرا وحتى قبل ان تضع اوزارها الى اختلال عميق في التوازن الإقليمي الذي كان سائدا سابقا. ولم يكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مخطئا عندما كان يردّد في العديد من اطلالاته بأنّ نتائج هذه الحرب سوف تغيّر وجه الشرق الأوسط. وقبل ان تعود المنطقة لترسو على توازنات جديدة ترتسم ملامحها الأولية تباعا، بدأت دول عدة تشهد تطورات دراماتيكية يمكن وصفها بالتاريخية يصعب التكهن منذ الآن بمآلاتها النهائية.
لبنان وهزيمة حزب الله
في لبنان وبعد ما يقارب العام من الاشتباكات الحدودية وما تلته من تصعيد واسع النطاق على مدى شهرين تلقى خلالها حزب الله ضربات قاسمة وافق الحزب برعاية أميركية على اتفاق لوقف النار دلّت بنوده ووقائع تطبيقه على الأرض على انه نوع من صك استسلام بما يعنيه من انتهاء لدور الحزب العسكري والأمني وتلاش للنفوذ الإيراني. يعتبر هذا التحوّل الاستراتيجي فرصة تاريخية للبنان لم تتوفر له منذ ما يقارب الستين عاما لاستعادة كامل سيادته على حدوده وإعادة تشكيل سلطاته الدستورية وبناء مؤسساته وترميم علاقاته العربية والدولية.
فلسطين وأكوام الركام في غزة
على المستوى الفلسطيني وبعدما قضت إسرائيل على المنظومة العسكرية لحركة حماس وحولت قطاع غزة الى أكوام من الركام اقرّت الحركة بتسليم إدارة القطاع بعد الحرب الى لجنة خاصة تشكلها السلطة الفلسطينية وتعمل تحت مرجعتيها. غير أنّ الانتقال الى هذه المرحلة يبقى رهن انتهاء العمليات العسكرية في غزة وافصاح إسرائيل عن نواياها في ما خصّ الإدارة الأمنية للقطاع، وهي التي تجزم منذ الآن بان لا دور على الاطلاق في هذا المجال لحركة حماس. كما في لبنان كذلك في فلسطين فقد خسرت إيران بهزيمة حماس حليفا استراتيجيا مما سيقصيها عن مواصلة الاستثمار في الموضوع الفلسطيني وعن استغلال قدراتها بإيذاء إسرائيل في لعبة إدارة مصالحها الدولية. اما في ما يتعلق بمواجهة آثار هذه النكبة الجديدة التي حلّت بالشعب الفلسطيني، فسوف يقع على عاتق السلطة الضعيفة والمحاصرة في رام الله مهمة لملمة أشلاء القضية الفلسطينية في وجه التوغل الإسرائيلي المتطرف ومشاريع الاستيطان والضم التي ستلقى على الأرجح اذانا صاغية لدى الإدارة الأميركية الجديدة.
سقوط الأسد وبروز تركيا
غير أنّ المفاجأة الكبرى والتحول التاريخي كنتيجة أيضا لكسر توازنات المنطقة التي كانت سائدة قبل السابع من تشرين اول ٢٠٢٣ فقد جاءت تجلياتها في سوريا. أخيرا سقط نظام الأسد الدموي والاستبدادي الذي تحكم بمصير هذا البلد على مدى ما يزيد عن خمسة عقود. عند هذا المفترق المفصلي عجزت كل محاولات إيران الضعيفة عن انقاذ دميتها الاسدية فيما نأت القيادة الروسية المنشغلة بحربها على أوكرانيا واليائسة من ارتهان الأسد الكامل للمحور الإيراني عن تقديم الحد الأدنى من الدعم لحليفها السابق مفضلة التعامل بواقعية مع الاحداث والتنسيق مع الاتراك للاحتفاظ بما تبقى لها من نفوذ في سوريا. مع زوال النظام البعثي تبرز تركيا الرابح الإقليمي الأكبر نتيجة لهذه المتغيرات الى جانب الولايات المتحدة الأميركية التي باتت تمسك بالدور الأساسي في الاشراف الدولي على ترتيب الحقبة السياسية الجديدة في المنطقة.
ايران وانهيار المشروع
في المقابل فان خسارة إيران للساحة السورية يعتبر تجسيدا للسقوط المدوي للمشروع التوسعي الإيراني في المنطقة الذي استغرق بناؤه ما يزيد عن أربعة عقود واستنزف كما هائلا من موارد إيران المحاصرة اقتصاديا. والحال هذه تنتظر الجمهورية الإسلامية منكسرة مصيرا غامضا لنهاية المواجهة المفتوحة مع دولة إسرائيل التي قد تصل تداعياتها الى مستوى المسّ بوجود النظام الإيراني بحد ذاته. لن يطول الانتظار لكي يتضح شكل وحجم تلك المواجهة مع قرب استلام الرئيس الأميركي الجديد لسلطاته الدستورية في العشرين من كانون الثاني المقبل.
العراق والنأي بالنفس
وعلى هامش العملية العسكرية الخاطفة للفصائل المعارضة للإطاحة بالنظام السوري لا بد من الإشارة الى الموقف العراقي والذي عبر عنه كبار قادة هذا البلد، بحيث تميّز بالإصرار على النأي بالنفس عن احداث سوريا رغما عن كل الضغوط التي مارستها إيران لتأمين الدعم للنظام السوري. بدوره فقد اوحى الموقف العراقي السيادي الى تراجع التأثير الإيراني على العراق حيث جاهرت قيادته بأولوية المحافظة على المصالح الوطنية للدولة وحماية حدودها وعدم الانجرار الى عين العاصفة التي تضرب المنطقة وتعريض استقرار العراق للمخاطر التي شهدتها الساحات المجاورة.
لقد بدأت ترتسم امام اعيننا ملامح تغيير وجه المنطقة عنوانها انكفاء إيران الضعيفة الى داخل حدودها وإعادة الاعتبار للدول الوطنية التي استباحتها إيران فترة طويلة من الزمن وها هي الآن ترحل عنها تاركة وراءها اكواما من الدمار والمآسي التي تتطلب الكثير من الجهد والموارد لإعادة البناء وتضميد الجراح واستعادة العافية. التحديات كبيرة غير ان الفرصة تاريخية لمستقبل أفضل لشعوب المنطقة.