في كل مرة تقع حادثة مؤسفة في لبنان يقفز إلى الواجهة واقع “الأخلاق الإعلامية”، حيث تنعم وسائل الإعلام فيه بقسط كبير من الحريات، لكن للأسف غالبًا ما يرتبك الصحافي، فيقع في فخ المزج بين الحرية وبين المصلحة الفردية الجامحة، إذ ومن خلال سعيه إلى السبق وشدّ المتابع، يرتكب أخطاء مهنيّة قد تكون في كثير من الأحيان فادحة.
هذه الإشكالية طرحت نفسها مع التغطية المباشرة التي قامت بها بعض المحطات التلفزيونية اللبنانية لمسرح جريمة فاريا التي وقعت ليل السبت / الأحد، وراح ضحيتها شاب على يد آخر، حيث سارعت هذه التلفزيونات إلى تثبيت الكاميرا على دم الضحية الذي يغطي الأرض أثناء قيام المذيعة بالحديث مع شقيقة المغدور ووالدته.
فأين السبق في هذه الصورة؟ وما المعلومة الإضافية التي يمكن تقديمها للمشاهد وما هو مردودها الإيجابي عليه؟
كأم أتساءل، هل تساهم مثل هذه الصور في ردع الجريمة وتنبيه الأهل على ما قد يحدث لأبنائهم، سواء كانوا ضحايا أم مجرمين، أم أنها تنال فقط من معنوياتهم؟ هل “الحسّ الإنساني” يبرّر إظهار الفواجع التي يتسبّب بها “أزعر”، شعر لسبب وأو لآخر بفائض قوّة زائف.
تختلف الإجابات تبعًا للصحافي، فمنهم من يعتبر أنه من الضروري نشر هذه الصور على بشاعتها، ومنهم من يعترض لأن برأيهم مردودها السلبي يفوق الإيجابي نظرًا لما ستتركه من انعكاسات نفسية وأخلاقية على المشاهد.
في فرنسا مثلًا، يمنع القانون بث أي صور تظهر جريمة أو أعمال عنف مقصودة من دون إذن من السلطات القضائية، فعلى الرغم من مرور عشر سنوات على الهجوم الإرهابي على صحيفة شارلي إيبدو (كانون الثاني / يناير ٢٠١٥)، لم تنشر السلطات الفرنسية، انطلاقًا من هذه المبادئ، أي صورة للضحايا، وكذلك الأمر بالنسبة للمدرّس صامويل باتي الذي فُصل رأسه عن جسده على يد متشدّد شيشاني في تشرين الأول/ أكتوبر٢٠٢١.
في لبنان، وبسبب غياب نص واضح حول تعاطي الإعلام إزاء هذه الأحداث، لجأت غالبية المؤسسات الإعلامية إلى “الرقابة الذاتية” حيث يمارس كل مدير مسؤول في مؤسسته الرقابة على صحافييه، لكن للأسف غالبًا ما نلاحظ تقديم مصلحة المؤسسة التي ينتمي إليها على المصلحة العامة.
ولكن هل الحلّ في سنّ شرائع أخلاقية ومواثيق شرف جديدة تتلاءم مع ضمان حسن سير المهنة، لتطهّرها من الشوائب التي تهدّدها؟
ذهب بعض المشرّعين إلى التشكيك بدور الشرائع الأخلاقية معتبرين أنّها من دون فائدة كبيرة، و”لا تتضمّن سوى مبادئ وحالات عامة وبالتالي تبقى محدودة التطبيق”، وذهب البعض إلى أكثر من ذلك إذ “اعتبر أن مواثيق الشرف تخلّ بالفكر الأخلاقي من خلال إقرار مبادئ نسبية وإحلالها مكان المساحة الفكرية المطلوبة أمام مثل هذه القضايا”، باعتبار أنّ “الفكر الأخلاقي يتميّز عن الق واعد السلوكيّة بأنه أكثر دينامية وتحرّرًا من الناحية الفكرية ولا يتقيّد بمفاهيم جامدة.
ويقول الدكتور جورج صدقة في كتابه “الأخلاق الإعلامية بين المبادئ والوقائع”: ” إن المبادئ الأخلاقية على عكس القوانين لا قوة تنفيذية لها، إنما تتوجّه بشكل رئيس إلى الصحافي وضميره ومهنيته كي يبقى حرًا في اتخاذ القرار الذي يريد”.
وعليه فإنّ تحصين الإعلام اللبناني وتشذيبه من الشوائب يكمن في تحصين أنفسنا نحن كصحافيين ضد أي إغراءات حتى لا يبقى المردود الدعائي متفوّقًا على القيم الأخلاقية.