هل من شيء أسوأ من أن تستمع إلى شخص يعظك بما ليس فيه؟
هذا تمامًا ما يفعله السياسيون في لبنان ورؤساء الأحزاب ومن بعدهم المحازبون والمناصرون، حتى بات يطبّق عليهم قول المثل: “أسمع كلامهم أصدّقهم أرى أمورهم أتعجّب”.
اليوم، في الذكرى التاسعة والأربعين على اندلاع الحرب الأهلية، يستمع اللبنانيون إلي سياسييهم الذين في غالبيتهم من نتاج هذه الحرب، وهم يخطبون في الناس عن الديموقراطية والحرية ودرء الفتن، هؤلاء أنفسهم، كانوا ولا يزالون يقصفون المدن ويحرقون الأرض ويخطفون ويقتلون من يعارضهم ويشتمون من يخالفهم الرأي.
إنّ هذا التناقض بين أقوالهم وأفعالهم والازدواجية في سلوكهم المثير للتجريح أحيانًا وللسخرية أحيانًا أخرى، يطلق عليه علماءالاجتماع اسم “النفاق المركزي”.
ويرى الخبراء أنّ ممارسات هؤلاء السياسيين اليومية وخطاباتهم المزدوجة، وعدم تطابق أقوالهم مع أفعالهم، قد تضعهم في مواقف غير ثابتة وغير مستقرة وبالتالي تفقدهم مصداقيتهم أمام شعوبهم.
في العام ٢٠١٥، نشر دانيال إفرون من كلية لندن للأعمال وديل ميلر من جامعة ستانفورد دراسة حول طرق تصوّر وتقبّل الإنسان للآراء والنصائح التي يمكن أن يقدّمها الآخرون.
وكان الباحثان قد طلبا من ثلاثة مشاركين إسداء نصيحة الإقلاع عن التدخين لمجموعة من المدخّنين، أحد هؤلاء الثلاثة، لم يدخّن قطّ في حياته، أما الثاني كان قد دخّن لفترة ثم توقف ولكن لم يترك عليه التدخين أي مضاعفات صحيّة، وطمأنه طبيبه من أنه لن يعاني من أي تبعات سلبية ناتجة عن تدخينه في الماضي، أما الثالث والذي كان مدخّنًا سابقًا، فيعاني من مشاكل صحية كبيرة.
وأظهرت الدراسة أن المشاركين رفضوا رفضًا باتًا الاستماع إلى نصيحة الأول (الذي لم يدخّن في حياته)، وأبدوا عدم رغبة في تقبّل نصيحة المدخّن السابق الذي يتمتّع بصحّة جيدة، كما وصل الأمر ببعض المشاركين في الدراسة إلى وصفه بالمزعج والمغرور والفوقي ولا يحترم الآخرين، بالمقابل تم الاستماع إلى المدخّن الذي عانى من إدمانه، بتفهّم وتعاطف وبالأخذ بنصائحه.
ووفق دانيال إفرون وديل ميلر فإنّ المدخّن الذي لم يترك التبغ آثاره السلبية على صحته لا يمكن أن يكون مؤهّلًا للعب دور الواعظ أو المرشد، في حين اعتبرا أن الشخص الذي يعاني من آثار التدخين هو الوحيد القادر عن التحدّث عن تجربته لأنه “دفع ثمن التدخين وبالتالي يعرف تكلفته”.
كيف يمكن تفسير هذا الفرق في التفاعل؟
في الواقع، تبيّن هذه الدراسة، من له شرعية اسداء النصائح ومن ليس له، ووفق إفرون وميلر فإن سلوك الشخص الثاني (الذي لم يعانِ من مضاعفات التدخين) يعرّفه علم الاجتماع بـ “النفاق المركزي”، فهو استمتع لفترة زمنية بالتدخين ومن حسن حظه أنه لم يتكبّد أي مشكلة، وقالا: “إن قيامه بإسداء النصيحة لمدخّنين، بعد إقلاعه هو عن التدخين، يظهره كمن لا يؤمن بما يقوله، فهو استفاد من سلوك يدّعي رفضه ويأتي الآن ليعطي دروسًا للآخرين، إنه… النفاق المركزي”.
إذن من هو الشخص المؤهّل لنقل الرسائل؟
على الصعيد الفردي، إنّ التناقض بين القول والفعل قد يسحب من الشخص ليس فقط شرعية النصيحة، إنما شرعية السلطة أيضًا.
وأظهرت أبحاث علم النفس الاجتماعي أن إعطاء شرعية “للواعظ” شيء قد يصعب الحصول عليه، فالإيمان بشخص ما يحتاج أن يؤمن هو أولًا بنفسه وبخطابه الخاص.
ويحدّد دانيال إفرون وديل ميلر مواصفات الشخص المؤهّل لإسداء النصائح بالآتي:
أن تكون لديه مشكلة شخصية مرتبطة بالمشكلة التي يندّد بها.
أن تكون لديه القدرة على الالتزام بتعهّدات تتماشى مع القيم التي ينادي بها.
أن يتمتّع بسعة الأفق وبالقدرة على التعاطف مع الآخرين وتفهّم مشاعرهم وأخذ آرائهم بعين الاعتبار.
من هنا إذا كان هؤلاء السياسيون لا يتمتعون بالصفات السابق ذكرها، فقد يكون من الأجدى بهم التوقّف عن اعتلاء المنابر والإكثار من الخطب العصماء بمناسبة وبلا مناسبة، والكفّ عن توسيع مساحة وعودهم، وأن يلتزموا الصمت الذي هو الوحيد القادر أن يحميهم من غضب شعوبهم، الذي مهما طال الزمن، سيأتي اليوم الذي ستدرك فيه هذه الشعوب أنّ هذه الكلمات لم تكن سوى مسكّنات لتهدئة مشاعرهم.