ما كان يجب ان يصل الزجل حول نزع سلاح “حزب الله” الى هذا الحد الذي يمس المحرمات الوطنية والمحظورات السياسية، ويصل الى حد إختراع “مسألة شيعية” في لبنان والمشرق، توجب اللجوء الى الانتروبولوجيا، بل حتى الى تفسيرات علم النفس. كان ولا يزال يمكن الانطلاق من فكرة واحدة، بلا لف أو مواربة، وهي أن هذا السلاح فقد “شرعيته” منذ ان حقق إنجازه التاريخي عندما حرر الأرض الجنوبية في العام 2000، وما كان ينبغي ان يظل في أيدي الحزب أو أي فريق مقاوم آخر. وهذا بالتحديد ما كان مرجواً في ذلك الحين، لولا القرار السوري، ثم الإيراني، بأن تظل الجبهة الجنوبية التي لم يبق منها سوى أشلاء وركام، مفتوحة حتى اليوم.
في نقاشات ساذجة شهدتها تلك الفترة، وشارك فيها كاتب هذه السطور، جرى تداول فكرة سطحية، عن الحاجة الملحة الى اقفال تلك الجبهة نهائياً، وبناء جدار اسمنتي مرتفع على الحدود، لا يسمح حتى بالرؤية المتبادلة بين المستوطنات الإسرائيلية والقرى الجنوبية، ونشر الجيش اللبناني، على ضعفه الشديد يومها، ( وهو ضعف ينسب بالتحديد الى مشيئة النظام الاسدي) في الشريط الحدودي الذي يمكن ان يصبح بالتدريج منطقة عازلة خالية من السلاح على جانبي خط الجبهة، تشبه المنطقة الفاصلة بين الكوريتين..وتهدف الى طي صفحة تورط لبنان العسكري في الصراع، وختم الاثمان البشرية والمادية الباهظة التي دفعها على مدى العقود الستة الماضية، والتي فاقت نسبيا ما دفعته جميع دول الطوق العربية، وأولها سوريا الأسد.
لم يكتب لتلك الفكرة الساذجة، الانتشار خارج بعض الصالونات السياسية المغلقة، حتى بعدما ألقى الأمين العام السابق ل”حزب الله” حسن نصر الله خطاب بنت جبيل الشهير في اليوم التالي للتحرير، أوعندما أُغري الحزب بمكافأة الانخراط في السياسة الداخلية بما فيها من وزارات ونيابات وتحالفات انتخابية وصراعات سياسية..سرعان ما حولته الى ميليشيا الظل للسلطة الحاكمة، والمحكومة مباشرة من دمشق وطهران. وكان ذلك مستهل مسيرة السقوط، التي أفرغت المقاومة من محتواها ومن شعبيتها التي تخطت الحدود الوطنية، وجعلتها جيشاً تقليدياً رديفاً، ينافس ويصادر مهمات الجيش اللبناني العتيد، وأدواره المفترضة، التي بلغت في معظم الأحيان فك الاشتباك بين الحزب وبين بقية الطوائف اللبنانية، في جولات لا حصر لها من الصراع الأهلي.
وبالتزامن مع تفاقم دور الحزب في الداخل اللبناني، لا سيما بعد الخروج العسكري السوري من لبنان في العام 2005، كانت المقاومة تتحول تدريجياً الى سلاح داخلي، وتنفذ العمليات العسكرية على الحدود على إيقاع الصراعات المحلية، بالإضافة طبعا الى التوجيهات الخارجية، ما أدى الى مبادرة الحزب لإشعال حربين عبثيتين، مع العدو الإسرائيلي، الأولى في العام 2006 وكانت نتائجها كارثية، والثانية هي التي بدأت في خريف العام 2023 ، وما زالت مستمرة، ولا أحد يعرف حتى الآن كيف ومتى تنتهي. ما يقال فقط هو ان الخطيئة الفادحة التي ارتُكبت في الحرب الأولى، ولم تستخلص دروسها، تكررت بشكل مأساوي في الحرب الراهنة..مع إضافة استدعتها الوقائع المرّيرة هي أن نزع السلاح صار مطلباً وطنياً ملحاً، لا يحتمل الجدال، ولا التأجيل.
والمفارقة الغريبة هي أنه طوال الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، تآكل دور هذا السلاح في الوقت الذي كان يتضخم الزجل حوله، حتى بات اليوم يخوض معركته الوجودية الأخيرة مع الجيش اللبناني الذي حصل على تفويض عام ومطلق في الداخل والخارج بحصرية سلاحه، التي تختزل عملية إعادة بناء الدولة ومؤسساتها.. وتختصر بين الحين والأخر حقوق الطائفة الشيعية المسلحة وواجباتها تجاه الطوائف الأخرى، في إستعادة شبه حرفية لخطاب الحرب الاهلية، التي اندلعت قبل خمسين عاماً على إنقاض الدولة وعلى تفجر الخلاف حول وظائفها.
ولعل الذكرى الخمسين تجيز الاعتراف مجدداً بأن ذلك السلاح ، الذي لطالما ظل على هامش الحرب الاهلية، وخاض بعض معاركها من خلف الكواليس، بات اليوم أحد أهم العناوين المتوارثة من تلك الحرب التي ترفض ان تنتهي، مهما طال الزمن، وما زالت الكثرة اللبنانية تجد صعوبة في التحرر منها. /2025