وسام كنعان
واضحة في شوارع الشام ووجوه المارة والحركة التي عادت إلى طبيعتها. مع ذلك، سؤال واحد يؤرّق السوريين: هل ستصبح هذه البلاد حقّاً جنّة، أم مرتعاً للتكفيريين؟ الإجابة ستكون مرهونة بقادم الأيام طالت أو قصرت
صباح الأربعاء الموافق للحادي عشر من شهر كانون الأول (ديسمبر) لعام 2024: «عاصمة الأمويين» ما زالت تعيش أجواء فرحة صريحة لا تقبل التشكيك، بذريعة أنها تنضح من وجوه المارّة وقاع الشارع الذي عانى خلال 14 عاماً من ويلات الحرب المستعرة. وفي مقابل أن يظلّ في بلاده محميّاً من مخاطر اللجوء إلى دولة أوروبية ربما تكون مذلّة، أقلّها في طريق الوصول إلى هناك، دفع أثماناً باهظة وعانى الإذلال من نوع أشد وطأةً في وطنه المكلوم وسط تردٍّ خدماتي موحل، وحالة اقتصادية متهالكة، وسطوة أمنية مرعبة. مرّت أربعة أيام على سقوط النظام، وربما صار المشهد أكثر وضوحاً مع تنفيذ «هيئة تحرير الشام» وعودها بعدم التعرّض لأحد، أو التدخّل في حياة المدنيين، أو حتى فرض قوانينهم الإسلامية المتشددة على المواطنين.
على أي حال، المشوار، هذه المرّة، سيكون إلى «برج دمشق» المكان الذي كان يخضع لرقابة أمنية مشددة، على اعتبار أنه سوق كبير لتجارة الهواتف النقالة المرتبطة بسعر صرف الدولار الأميركي بسبب تأرجح سعر الليرة السورية. وقد احتكر النظام القديم هذه التجارة بإحدى أذرعه الاقتصادية الشهيرة، وفرض دفع رسوم جمركية هائلة على أيّ موبايل يدخل إلى سوريا، حتى يتمكّن صاحبه من استخدامه، ما أصاب هذا السوق بمقتل. لذا لجأ بعض التجار إلى حيلة تقنية تجعل الجهاز يعمل من دون جمركته، فتعرّض كل مَن اشتغل في هذه الحيلة إلى الاعتقال التعسفي والحبس في الأفرع الأمنية.
يعيش «البرج» عرساً حقيقياً، وارتياحاً واضحاً مع الحفاظ على الأسعار ذاتها، أعلام «الاستقلال» تزيّن غالبية محلّاته، بينما تصدح أغاني «الثورة» في كلّ مكان، خصوصاً لمنشدها المعروف ولاعب كرة القدم سابقاً عبد الباسط الساروت وهو يغني «جنّة يا وطنا». طيّب، هل حقاً ستصبح هذه البلاد جنّة، أم مرتعاً للتكفيريين والجهاديين بعد «انتصارهم» ولو كان وفقاً لمخطط دولي، وها نحن على أبواب إمارة إسلامية سورية؟! إنّه السؤال الذي يؤرّق غالبية السوريين هذه الأثناء، بينما الإجابة عليه ستكون مرهونة بقادم الأيام طالت أو قصرت. لكنّ أحاديث الباعة في البرج المعروف قاطعة لا لبس أو تردد فيها، تكاد تجتمع على فكرة موحّدة يفضون بها أثناء أحاديثهم معنا: «مهما كان القادم مجهولاً، والمستقبل مهدداً، وربما موحلاً، ستظلّ الحال أخف وطأة بكثير مما عانيناه في حقبة الأسد، وخصوصاً في السنوات الأخيرة».
ليس بمكان بعيد عن برج دمشق، وتحديداً في ساحة المرجة الشهيرة، سنلتقي ببعض تجار الأدوات الكهربائية، وألواح الطاقة، وهي التجارة الرائجة في العقد الأخير بسبب انقطاع التيار الكهربائي لمدة تصل إلى 20 ساعة يومياً في غالبية مناطق العاصمة. سيتفق هؤلاء في أحاديثهم معنا على أنّه «لو تحسّنت الأوضاع الخدماتية بما فيها الكهرباء في المدة المقبلة، ستتضرّر تجارتنا، لكن هذا أفضل بألف مرة من الوضع الذي كنا نعيش فيه ونتعرّض لاعتقالات تعسفية دائمة لا ننجو منها إلا بعد دفع «أتاوة» حقيقية تمثّل ثلاثة أرباع مرابحنا تقريباً، والحجة جاهزة بأننا نتعامل بالقطع الأجنبي أثناء استيراد بضاعتنا أو أننا أدخلناها البلاد من دون دفع الرسوم الجمركية اللازمة». البوح عما كان يعانيه السوريون قبل بضعة أيام وصولاً إلى أكثر من خمسين عاماً خلت لا ينتهي، لكنه دائماً مشوب بحذر مما يخبئه المستقبل القريب. ولعلّ فكرة عودة الحياة الطبيعية إلى غالبية الفنادق والمقاهي في قلب المدينة، مع تقديمها المشروبات بما فيها الكحولية والأراكيل لمن اعتاد ذلك بلا خوف من أحد، سيبعث بشيء من الارتياح النسبي من دون تجرؤ أحد حتى الآن على البقاء خارج منزله لساعات متأخرة، إنما ستبدأ الحياة بالأفول مع حلول الظلام تقريباً. خلال مشوارنا من المرجة إلى «ساحة يوسف العظمة» (المحافظة)، سنشاهد عناصر «الهيئة» وهم يتمركزون في كل المباني الحكومية والساحات العامة. نمرّ على وزارة الصناعة، ويبدو واضحاً بأنّ بعض موظفيها أزالوا الأعلام القديمة، ومزّقوا صورة الرئيس الأسبق من دون أن يتعرّض المبنى لأي أذى خلال فترات الانفلات القصيرة. نصل إلى «الشعلان» وهو الحي الذي اعتاد الفنانون والكتاب والصحافيون التواجد في محلاته العامة. سريعاً، نلتقي في أحد المقاهي بنجم سوري مكرّس. يبادلنا أطراف حديث مهم مفضّلاً عدم الكشف عن اسمه في حال نشرنا كلامه بسبب حساسية الظرف. يقول: «لست متفائلاً بالمستقبل، وربما أكون شبه متأكد بأننا أمام انعطافة مفصلية في تاريخ سوريا، والأرجح أن البلاد ستذهب نحو حالة تشبه الإمارة الإسلامية». لكن أين دور ومكان المثقفين والفنانين والأدباء ومناصري العلمانية، وأصحاب الفكر المنفتح، والناشطين المدنيين، وغيرهم الكثير من أبناء الشعب السوري الذي سيناضلون حتماً للتصدي لهذا المشروع؟ يجيبنا: «حتى ولو وجدوا، سيكونون قلّة والمجتمع في غالبيته ومنطقه الديني، يمكن أن يتقبل ببساطة الدولة الإسلامية». نقاطعه بعدم الموافقة على تحليله، فيعقّب بجملة أخيرة: «إن لم تبدأ المعارضة السياسية بمختلف أطيافها وشخصياتها وعلى رأسها المثقفون والفنانون بالقدوم تباعاً إلى الشام منذ صباح الغد، فلن يكون سلوكها وطنياً كما تملي شعاراتها ونضالات بعضها الطويلة».
على طاولة مجاورة تجتمع بعض الصحافيات السوريات الشابات. تبدو عليهن الريبة كلّما مرّت سيارة للفصائل المسلحة. تقول إحداهن: «كان التحدي أمامي يوم أمس أن ألبس براحتي وأمارس جزءاً من حياتي. ولأكون صريحة، لم يتعرّض لي أحد، لكن راقبتني العيون بطريقة جعلتني أشعر بالخوف. ربما علينا أن نتغلّب على هذا الخوف الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم وما عشناه في السنوات الماضية». تقاطعها صديقتها بالقول: «لم نصدّق حتى اليوم أننا نجلس في المقهى المفضّل لنا بلباسنا المعتاد وأجوائنا التي لم يكن أحد يتدخل بها»، ثم تضيف ثالثة: «الهم ليس فقط بهذه التفاصيل الشخصية، بالنسبة إلينا كجيل نحلم أن تنفتح سوق إعلامية حقيقية في سوريا، وبيئة مهنية تمكّن الصحافي من التنافس والتطورّ وتغنيه عن العمل في منصّات السوشال ميديا المنحدرة التي غزت البلاد من دون فائدة تذكر سوى الانحطاط بالذائقة العامة».
تلك مجرّد التقاطات عابرة من هواجس الشارع السوري بمختلف أطيافه وتنوعاته هذه الأيام. لكن الأكيد بأن الفرحة والارتياح سمة عامة في دمشق تحديداً مع بزوغ شمس الأربعاء وعودة ملامح الحياة إلى طبيعتها، خصوصاً عندما أصغت «هيئة تحرير الشام» إلى المطالب الصريحة التي انتشرت على السوشال ميديا بإيقاف الأناشيد الجهادية على شاشة التلفزيون الرسمي، وأبعدت علم الهيئة من الظهور الثاني لرئيس حكومة الإنقاذ محمد البشير الذي عينته واكتفى بعلم الاستقلال الجديد الذي يبدو أنه اعتمد من دون استفتاء شعبي.
الاخبار