“إن عشقت اعشق أمير وإن سرقت اسرق حرير” مثل عربي يستخدم كنصيحة للتواقين إلى الكمال، وبلوغ التميّز.
إنّ بلوغ الكمال هو الهدف الذي يسعى إليه أي شخص بشتى الطرق، ويحث الأهل منذ نعومة أظافر أبنائهم على أن يكونوا مثاليين من خلال الاجتهاد والعمل الدؤوب وعدم السماح لهم بارتكاب الأخطاء…
إلا أن مفهوم “الكمالية” قد أثار جدلاً واسعًا من قبل خبراء الصحّة النفسيّة لما رأوا فيه من تناقضات، إذ على عكس ما يظن البعض، فإن الكمال ليس صفة إيجابية، إنما عائق قد يؤدي الى تدهور في الأداء، حتى أن البعض ذهبوا إلى أبعد من ذلك فاعتبروه استراتيجية يتمّ استخدامها للدفاع عن النفس، وحجة لتبرير صورة سيئة، أو إخفاء شعور بالخجل، أو إحساس بالدونية، تترافق مع تقييمات نقدية مبالغة للذات وخوف من المقارنة بالآخرين خشية من كشفهم فإقصائهم، ورأوا أن السعي إلى هذا الكمال قد يؤدي حتمًا إلى الإحباط، لأنه غير قابل للتحقيق، وهذا ما رسّخته الدراسات حين أظهرت ارتفاع نسبة معدلات الاكتئاب واضطرابات القلق لدى التّواقين إليه، وقد تمّ تشبيهه ب “الأفق الذي يبتعد كلما حاولنا الاقتراب منه”، ووصل بالبعض الآخر إلى القول بأن “طعمه مرّ ورائحته كريهة”.
الكمال والأداء المميّز
أظهر بحث للبروفسور أوزيير أوغورلو في جامعة ويسكونسن في الولايات المتحدة الأميركية، قام خلاله بتجميع نتائج أربعة عشر دراسة ذات طابع واسع، بأنه لا يوجد فرق كبير في ما يتعلق ب”الكمالية” بين الطلاب ذوي الأداء المتميّز وبين أولئك المصنّفين ضمن فئة الوسط أو ما دون، أي انّ الطالب المتفوّق ليس بالضرورة أكثر كمالًا من زميله الذي يحتل مركزًا وسطيًا أو سفليًا في صفه، لكنّه رأى أن الفشل بالنسبة لهؤلاء الكماليين قد يكون “مميتًا” ، لأنه يُشكل بالنسبة إليهم دليلاً ثابتًا على أنهم ليسوا بالمستوى المطلوب، لذلك نراهم يميلون إلى التأجيل والتسويف وفي كثير من الأحيان إلى الاستسلام، لا سيما فيما يتعلّق بالأمور التي يمكن أن يتم تقييمهم من خلالها، وهي طبعًا صفات لا تتناغم إطلاقًا مع الاجتهاد والنجاح.
وخلص أوزيير أوغورلو من خلال دراسته هذه أنّ هناك بعدين إثنين للكمال:
الأول، وهو إيجابي، ويُعنى بما يسمّى ب”الطموحات الكمالية”، والذي يعكس رغبة المرء في التفوّق وهو مرتبط بالنتائج الأكاديميّة، أما الثاني فيشمل “القلق الكمالي”، والذي يُعنى بشكل أكبر بالخوف من الخطأ والشعور بعدم الرضا والاكتفاء وعدم الوصول إلى المستوى المطلوب، وقد تمّ تصنيفه في خانة السلبي، فهذا القلق الدائم من الفشل المحتمل يجعل من الكمالية عبئًا ثقيلًا على مُنشدها، وتجعل منه ناقدًا قاسيًا لذاته فتتسبّب بتدهور في أدائه مع إحساس عميق بالخيبة.
وداوني بالتي كانت هي الداء
ليس من السهل أن يعرف المرء بأنه يعاني من “داء” الكمالية، فالجلد المستمر للذات والشعور الدائم بالتقصير واجترار الأخطاء المرتكبة والاهتمام بآراء الآخرين، كلها سلوكيات قد تؤدي بصاحبها الى الإحباط، وللتغلّب عليها يوصي المعالجون المرضى بالآتي:
إضافة أخطاء صغيرة بشكل متعمّد على أن تكون غير ضارة، مما يساعد في اختبار غياب التأثير الذي لا يلاحظه أحد في معظم الأحيان.
اعتراف المرء بعيوبه وأخطائه واعتبارها جزءًا لا يتجزأ من طبيعة الحياة.
وضع أهداف واقعية قابلة للتحقيق.
التوازن في التفكير، أي الابتعاد عن الثنائية (إما أسود أو أبيض)، لأن الحياة هي مزيج من هذين اللونين.
طلب الدعم سواء من اختصاصي نفسي أو من صديق أو شخص مقرّب.
والأهم إعادة النظر بالنصيحة المتداولة لمرشحي التوظيف بأن يشيروا إلى “كماليتهم” عندما يُسألون عن أكبر عيوبهم ظناً منهم أنهم يحققون نقاط إيجابية، فهم بإعلان “كماليتهم” هذه قد لا يُحدثون أداءً أفضل في عملهم لا بل العكس، فبتركيزهم على التفاصيل الصغيرة على حساب المهام الكبيرة قد يجعل من أدائهم “حركة بلا بركة”.