"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

الرغبة المفقودة: صراع بين العقل والقلب.. والخاسر الأكبر المتعة

كريستين نمر
الثلاثاء، 7 مارس 2023

الزواج، شراء منزل، إنجاب أطفال، الحصول على ترقية، الهجرة إلى بلاد جديدة… أعباء ومسؤوليات يوميّة تتراكم على المرء، فتضيّع أهدافه وتشوّش أفكاره وتُخفت حماسته، فتختلط عليه سيناريوهات مستقبله وتُفقده الرغبة بالمضي قدمًا، ليغرق بعدها في حالة من الضياع.

فهل من طريقة لإعادة رغبته المفقودة هذه وما هي المعايير الذي يتوجّب عليه اتخاذها؟

يقال ” ضع قليلًا من العقل على قلبك حتى يستقيم، وضع قليلًا من العاطفة على عقلك حتى يلين”، فبين العقول والقلوب صراع من المستحيل أن يخرج المرء منه منتصرًا، كون سعيه وراء “مبدأ المتعة” هو غالبًا ما يتحكّم بسلوكه.

ومبدأ المتعة كما يعرّفه علماء النفس هو “تجنّب ما هو مؤلم والبحث عن الراحة والسكينة”.

في علم النفس التحفيزي ثمة سؤال بسيط يطرحه المرء على ذاته: “لماذا نفعل ما نفعله؟” وكما هو الحال مع غالبية الأسئلة البسيطة، نادرًا ما نجد الإجابات الفورية، إلا أنّ ما هو بديهي هو أن داخل كل شخص احتياجات متضاربة ومتنافسة مع بعضها البعض.

حشد الرغبات البشرية

على مدى عقود، قام علماء النفس بتجميع مخزون وفير من الدوافع البشرية، فقد حدّد البريطاني ويليام ماكدوغال (١٨٧١-١٩٣٨)، مؤسس ما كان يسمى “علم النفس الهرموني” وهو مفهوم مشتق من الهرمون اليوناني الذي يعني “الرغبة” أو “الحافز”، الرغبات البشرية ب: “الضحك السفر والتملّك والرفاهية إضافة إلى الجوع والخوف والرغبة الجنسية”.

ثمّ أحصى عالم الاجتماع الأمريكي هنري ألكسندر موراي (١٨٩٣-١٩٨٨) من جامعة هارفارد في بوسطن عشرين دافعًا، من بينها البحث عن النجاح والمكانة بالإضافة إلى الرغبة في الاعتراف والمعرفة والمثابرة والهيمنة.

إلا أنّ قائمة الدوافع الأكثر شهرة هي في الواقع لعالم النفس الأميركي أبراهام ماسلو(١٩٠٨- ١٩٧٠) صاحب نظرية “هرم ماسلو” الشهير أو “هرم الدوافع” حيث وضع في أسفل الهرم ما أسماه بدوافع العجز المتمثّلة بالمتعة الجنسية والغذاء، وفوقها وضع حافز البحث عن الأمن والانتماء، وفوقهما ما أطلق عليه اسم “الدوافع النبيلة للنمو” كالحاجة إلى التجديد والجمال وتحقيق الذات، أي أنّ ماسلو اختصرها ب: “الطعام أولاً ومن ثمّ.. الأخلاق”!

Pyramide des besoins selon Abraham Maslow

وعلى الرغم من الإجماع حول فاعلية نظرية ماسلو، إلا أنّ تيارًا على رأسه الألماني نوربرت بيشوف وصفه بالهراء بحيث رأى أنه لا يمكن اعتبار إشباع الجوع والرغبة الجنسية أهم من الأمن، ليتمّ اتباع هذا النموذج، كأساس من الذخيرة القياسية للعديد من المدرّبين التحفيزيين، بحيث تمّ الاتفاق على ثلاثة دوافع أساسية وراء الرغبة الشديدة هي: التعطّش للإنجاز، القوة والتواصل.

وتمّ اختصار عبارة التعطّش للإنجاز بجملة “أنت جيد في ما تفعله” في حين ترجمت كلمة قوة ب “أنت القائد”، أما للتواصل فاستُخدمت عبارة “أنا معجب بك”.

بالطبع، إنّ هذه الرغبات والدوافع الثلاثة موجودة بدرجات متفاوتة بين شخص وآخر، إذ تتأثّر بشكل كبير بالتنشئة الاجتماعية للفرد كما ترتبط بالمعايير الثقافية التي تشرّبها في طفولته، إضافة إلى الأداء والقوة والتقارب، إذ غالبًا ما تكون الدوافع الحقيقية وراء رغباته، مرتبطة بمزيج من توقعات الآخرين، والنوايا الإستراتيجية من جانبه، فمثلًا أي شخص يُسأل عن أهدافه ينتهي به الأمر في وقت أو آخر بقول شيء كهذا: “الحمدلله على كل شيء.. المهم الصحّة” أو ك “كل ما أفعله يصبّ في خدمة وطني”، أو “أولادي سبب وجودي “…

ولكن كيف يعرف الباحثون ما لا يدركه الشخص نفسه عن ذاته؟ وكيف يمكن للمرء أن يتحقّق من “رغباته الحقيقية”؟

يستخدم علماء النفس الإجراءات الإسقاطية لهذا الغرض، مثل اختبار الإدراك الموضوعي، الذي يقوم على عرض صور على الأشخاص الخاضعين للاختبار، لها علاقة بحياتهم اليومية، ثم يُطلب منهم ابتكار قصص بناءً عليها، كعرض صورة لسيدتين تتناقشان في مختبر كيميائي، بحيث يُطلب من الشخص الخاضع للاختبار تفسيرات حولها، فمنهم من يرى فيها تنافسًا بينهما، ومنهم من يعتبره اجتماع عمل، أو تبادلًا لأطراف الحديث خلال فترة الاستراحة، وتبقى الفكرة الأساسية لهذا النوع من الاختبارات هي إدراك المواقف أو الأنماط المرئية من خلال إسقاط الأفكار الشخصية والمشاعر عليها، فعندما تتكشف هذه العملية اللاواعية، تنكشف الدوافع الخفيّة.

ووفقًا لمسح نُشر في عام٢٠٠١، فإن اختبار الإدراك الموضوعي لديه قوة تنبؤية قوية على رغبات الفرد العميقة، فالأشخاص الذين ظهرت لديهم رغبة قوية في السلطة، حققوا نجاحات باهرة في ما بعد في أعمالهم الخاصة، على عكس أولئك الذين بينّوا عدم اكتراثهم للسلطة.

الرغبات الضمنية والرغبات الصريحة

وفي دراسة أجريت على أشخاص وصفوا أنفسهم بصراحة أن أداءهم مدفوع من قبل آخرين، وبين أشخاص أظهروا دافعًا ضمنيًا في اختبار الإدراك الموضوعي، جرى تقييم الاختبار عند انتهائه بنوعين من التعليقات، الأول جاء مباشرًا مثل ” أداؤك يتدهور” والثاني جاء بطريقة نسبية مثلًا “٦٠٪ من المشاركين أفضل منك”، أظهرت النتائج أن أداء المشاركين ذوي الدوافع الضمنية استمر بشكل أفضل بعد ردود الفعل الشخصية، بينما كان أداء الأفراد المدفوعين أفضل بعد المقارنة الاجتماعية.

ومن هنا تأتي أهمية تحديد رغبات الفرد الضمنيّة العميقة، إذ أنّ رغبته بالتقدّم لتكون حقيقية، يجب أن تنبع من ذاته وتصبّ في مصلحته وليس في مصلحة الآخرين.

هل للأحلام علاقة بالرغبة؟

أثبتت الدراسات أن ما يحفّز الفرد للسعي وراء هدفه هو جزء من الخيال المرتبط به، فتوقعاته العقلية غالبًا ما تكون نتيجة أحلامه.

من جامعة هامبورغ Gabriele Oettingenوأظهرت عالمة النفس في عام ٢٠٠٢ أن مثل هذه الأوهام عمومًا لها تأثير تحفيزي إضافي واعتبرت “أن وضع هدف أمامنا وجعلنا نحلم بتحقيقه قد يدفعنا إلى المضي قدمًا لتحقيقه، سواء تعلّق الأمر بشهادة جامعية، أو تأسيس مشروع، أو علاقة غرامية، فإن تصوّر الهدف بوضوح يساعد على الالتزام به بشكل هادف أكثر”. وقد بيّنت الدراسات أنه بقدر ما كان الهدف صعبًا بقدر ما جاء تحقيقه ممكنًا، ف”نظرية تحديد الهدف” تُظهر أن الأهداف المحدّدة بوضوح هي من أهم العوامل التحفيزيّة، لذلك فهي تتطلب التزامًا قويًا يتوافق مع رغبات المرء العميقة، على أن يترافق ذلك مع دراسة مسبقة للمخاطر والأخطار التي قد تنشأ على طول الطريق.

Oettingen 1627968988096 1627969009937

     Gabriele Oettingen

وعلى الرغم من صعوبة رسم الخط الفاصل بين الدافعين الداخلي والخارجي، يبقى من الضروري التمييز بين الرغبات “الصادقة” والرغبات “الوهمية”، بحيث أنّ الأولى تأتي بمبادرة حرّة من الفرد نفسه بحيث ينغمس تمامًا في أفعاله، على عكس الثانية التي تكون بدافع المكافآت أو المال أو التقدير.

وفقًا لنيكولا بومان، فإن المكافآت المالية تقلّل من الدوافع الشخصية، وهو أمر مثير للجدل … وتقول: “إنّ الأشخاص المتحمّسين لن يحتاجوا إلى مكافأة خاصة على جهودهم، إنما سيبذلون قصارى جهدهم بمفردهم، وأكبر دليل على ذلك عدد الأشخاص الذين يساهمون في موسوعة ويكيبيديا على الإنترنت من دون أي مقابل”.

5754 نيكولا بومان

وتبقى طبيعة الأشخاص واهتمامهم بالنجاح وتركيزهم على المهام التي يمكنهم من خلالها أثبات أنفسهم من دون أن تثقل كاهلهم، المحفّز الذي يزيد من رغبتهم على الأداء والتزام، إلا أنها في كثير من الأحيان قد تخطيء في الاتجاه فتضلّ الطريق، فالمثابرة هي أداة، على الرغم من أهميّتها، إلا أنها لا يمكن أن تكون ضمانة للنجاح، فكم من مرة تحرّكنا بعناد لنرى أنفسنا.. أمام طريق مسدود.

المقال السابق
إسبانيا: القضاء يحكم على رجل بدفع 200 ألف يورو لطليقته بسبب ربع قرن من الأعمال المنزلية
المادة التالية
سيّدتي...
كريستين نمر

كريستين نمر

محرّرة وكاتبة

مقالات ذات صلة

لقاح جديد للأنفلونزا يمكن للفرد أخذه بنفسه

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية