لو كان الكونكلاف الفاتيكاني هو الذي سوف يختار رئيساً بمعايير هاجس المحافظة على استمرارية لبنان، لوضع في الاعتبار جملة أمور لا بد منها: تطبيق القرارات الدولية، بلا تخاذل أو تحايل. إحياء علاقات لبنان المميزة مع العالم العربي عموماً والخليج خصوصاً، بما يوفّر مصلحة جميع اللبنانيين ولا سيّما منهم أبناء الطائفة الشيعية الذين دفعوا غالياً ثمن هذا التناغم بين الفساد والسلاح. وإعادة الاعتبار إلى الدستور وكل مبادئ السلام والوئام الأهليين.
تعرض دور السينما في العالم فيلماً جديداً يدور في كواليس حاضرة الفاتيكان. الفيلم مخصّص لطريقة إدارة انتخاب البابا في مجمع الكرادلة الانتخابي، المعروف بتسميته اللاتينية: كونكلاف
ويضم الكونكلاف كرادلة الكنيسة الكاثوليكية المنتشرين في أرجاء العالم، شرط أن يكونوا دون الثمانين من عمرهم. وعلى الرغم من المسافات التي تفصل بينهم، يتوزع هؤلاء الكرادلة على مجموعات عدة، بعضها الأول يُقدم العصبية الجغرافية أو الإتنية على أي معطى آخر، وبعضها الثاني يقدم مصالحه الذاتية على المصلحة العامة، وبعضها الثالث لا يهتم إلا بتمتين علاقة الكنيسة بالمؤمنين وجسر الهوة التي تفصل في كثير من الأحيان الدينامية الثقافية والاجتماعية والإنسانية عن المؤسسة الدينية الأعرق في العالم!
في هذا الفيلم، يذهب الكرادلة الكاثوليك إلى الكونكلاف لانتخاب البابا الجديد، وهم موزعون على أربع مجوعات.
وتبيّن أحداث الفيلم كيف أنّ المجموعتين الأكثر استقطاباً قد نصبتا الفخاخ لإطاحة المؤهلين الآخرين للبابوية، وكيف كاد الكاردينال الأكثر تطرفاً ضد المسلمين يحصل على الأكثرية، مستفيداً من انفجار ضخم وقع في روما، ولكنّ تصدّي كاردينال مغمور، كان البابا الراحل قد أبقى تعيينه سرّاً بسبب أدوار أوكلها إليه في كل من بغداد وكابول، لتطرّف الكاردينال الإيطالي، جعل كثيرين يلتفون حوله، على اعتبار أنّ الكنيسة مهمتها إشاعة المحبة وصناعة السلام، وليس العكس، مقدماً تجربته في كل من العراق وأفغانستان كنموذج لا يمكن تجاهله.
ولكن التحقيقات كشفت للأمين العام للمجمع الانتخابي أنّ هذا الكاردينال ينتمي إلى ما يُسمّى “الجنس الثالث”، أي إنّه يجمع في جسده الخصائص البيولوجية للمرأة والرجل في آن واحد. هذا الكاردينال المكسيكي لم يكن يعرف حقيقته، حتى سنوات خلت حين دخل المستشفى بسبب عارض صحي. فكّر في استئصال الرحم، ولكنه عاد وتراجع عن ذلك في ربع الساعة الأخير، في توجه منه لقبول جسده، كما خلقه الرب!
ودخل فريق أمين سر “الكونكلاف” في مأزق. جال على الاحتمالات. تبيّن له أنّه أمام خيارات عدة: القبول بالمرشح الإيطالي، وهو ينتمي إلى المتعصبين ودعاة الحروب على الآخرين، بمن فيهم الفقراء والضعفاء و”الاستثنائيون” في الجماعة المسيحية نفسها، أو العودة إلى خيار الكاردينال الأميركي الذي تولّى، ببراعة لافتة، نصب الكمائن لمنافسيه، حتى يمنع تأهيلهم للخدمة البابوية، أو التعاطي مع الكاردينال المكسيكي كما تعاطى هو مع نفسه، أي القبول بـ”خلقة الله”.
كان لافتاً أنّ المخرج وضع المشاهد نفسه أمام هذا المأزق، ليدفعه إلى أن يكون هو الآخر شريكاً في العملية الانتخابية، على قاعدة سؤال محوري وجوهري: هل نقبل بانحرافات سلوكية يصنعها البشر، عن سابق تصوّر وتصميم، في انعكاس لانحرافات نفسية وعقلية، أم نرضخ لمشيئة الله في خلقه، ما دام الشخص الذي يُعتبر “استثناءً خلقيّاً”، يملك كل المؤهلات النفسية والعقلية والعصرية؟
الفيلم اختار الكاردينال الاستثنائي ووضعه على رأس الفاتيكان.
سرعان ما ينقلك هذا الفهم لديناميكية الانتخاب البابوي إلى لبنان، حيث هناك مجلس نيابي تنحصر فيه مهمة انتخاب رئيس الجمهورية
وطالما أثارت الكنيسة الكاثوليكية دهشتي، فهي، على الرغم من تقادم السنوات، وتلاحق الثورات العلمية والفكرية والثقافية والدينية والسياسية، وتراكم الهزائم والانشقاقات والفضائح والتهجمات والحملات، بقيت مؤسسة قوية وصامدة ومتألقة، على مدى العصور.
لقد أضاء فيلم “كونكلاف” الضوء على السبب الجوهري لذلك: التفاعل المجتمعي العالمي في حيثيات انتخاب البابا.
كل لحظة انتخاب هي لحظة مواجهة الحقائق الجديدة، والتفاعل معها، ومحاولة إيصال بابا يعبّر عنها، بعيداً من التمسك القاتل بالشعارات الضخمة والعقائد الجامدة والرؤية الاحتكاريّة!
وسرعان ما ينقلك هذا الفهم لديناميكية الانتخاب البابوي إلى لبنان، حيث هناك مجلس نيابي تنحصر فيه مهمة انتخاب رئيس الجمهورية.
لا يدفعك ذلك إلى المطالبة بتحويل المجلس النيابي إلى “كونكلاف” فاتيكاني، بل إلى التأكد من أن غرق المجموعات النيابية الوازنة التي تقرر اسم رئيس الجمهورية، في تقديم مصالحها الآنية على المصالح الوطنية، هو السبب الجوهري في إيصال لبنان إلى الجحيم الذي كان قد سقط فيه!
هذه المصالح هي التي تغاضت عن إيصال شخصيات يتلاعب بها السلاح والفساد إلى سدة الرئاسة، من دون الأخذ في الاعتبار أنّ هذا المزج ليس أكثر من صناعة لقنبلة ضخمة تنفجر بالبلاد والعباد. هذه المصالح هي التي جعلت لبنان خارج كل أنواع الشرعيات، وحرمت اللبنانيين من أن تكون لديهم دولة حقيقية، ومواطنية حقيقية ومؤسسات حقيقية!
لو كان الكونكلاف الفاتيكاني هو الذي سوف يختار رئيساً بمعايير هاجس المحافظة على استمرارية لبنان، لوضع في الاعتبار جملة أمور لا بد منها: تطبيق القرارات الدولية، بلا تخاذل أو تحايل. إحياء علاقات لبنان المميزة مع العالم العربي عموماً والخليج خصوصاً، بما يوفّر مصلحة جميع اللبنانيين ولا سيّما منهم أبناء الطائفة الشيعية الذين دفعوا غالياً ثمن هذا التناغم بين الفساد والسلاح. وإعادة الاعتبار إلى الدستور وكل مبادئ السلام والوئام الأهليين.
إنّ حاجة لبنان الوجودية إلى أن يكون الدخان الذي سيخرج من المجلس النيابي أبيض حقاً لا أسود، توهمك الحملات الدعائية أنّه غير ذلك، وفق ما أظهرته التجارب اللبنانية السيئة جداً!