يُغيَّب الرأي العام في الانظمة الديكتاتورية، نتيجة لغياب الحريات وخنقها؛ في حين ان الدول الديمقراطية، تحسب الف حساب للرأي العام فيها، كونه يمتلك حق المحاسبة، وصوته يُعيد تشكيل السلطة من خلال عملية الانتخاب.. ففي هذه الدول، لا صوت يعلو فوق صوت الشعب.
المفارقة اليوم انه في زمن الحرب التي تقودها إسرائيل على غزة، والمثخنة بمشاهد جرائم الحرب المروعة التي ترتكبها الآلة العسكرية الاسرائيلية بحق المدنيين في القطاع، وبسياسات الفصل العنصري التي تتبعها، لمحو شعب من أرضه وذلك عبر القتل، او الدفع به باتجاه “الترانسفير” الى الدول المجاورة، وتحويل غزة الى ما يشبه المقبرة الجماعية.
كل هذه المشاهد، التي يشهد عليها العالم بأجمعه، بدأت تحدث تغييرا لافتا في الرأي العام العالمي والغربي خصوصا، والذي بدأ يطالب حكوماته والمسؤولين فيها، بالدعوة لوقف اطلاق نار فوري في غزة، والسماح بدخول المساعدات الانسانية اليها، ومحاولة ايجاد حل سلمي للصراع على الاراضي الفلسطينية المحتلة.
بالطبع ما من حكومة، و تحديدا غربية، تجاوبت مع صوت “الرأي العام” فيها حتى الآن، خصوصا الولايات المتحدة الاميركية، التي تعتبر من اهم ديمقراطيات العالم؛ فهي وبعد دعمها الكامل لإسرائيل في حربها على قطاع غزة، ظهر الرأي العام فيها مناقضا تماما لسياساتها، حتى ان داخل اروقتها السياسية، لا سيما وزارة الخارجية، باتت الاصوات تتعالى بوجه السياسات المتبعة والداعمة لإسرائيل.
فقد كشف موقع “أكسيوس”، عن مذكرة داخلية في وزارة الخارجية الأميركية، تتهم الرئيس بايدن ب”نشر معلومات مضللة” عن الحرب على غزة، وتعتبر أن إسرائيل ترتكب “جرائم حرب” في القطاع، وفقاً لنسخة من المذكرة حصل عليها الموقع الأميركي.
وأشارت المذكرة، التي وقعها مئة موظف في وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، إلى أن دعم بايدن لإسرائيل جعله “متواطئاً في الإبادة الجماعية” في غزة، الامر الذي كشف عن عمق الانقسامات داخل الإدارة الأميركية.
بداية، رد وزير الخارجية الاميركي أنطوني بلينكن على المذكرة، برسالة حصلت عليها “رويترز” جاء فيها،” أعلم أن المعاناة التي سببتها هذه الأزمة بالنسبة للكثيرين منكم، لها أثر كبير على المستوى الشخصي”.
وأضاف “المعاناة المصاحبة لرؤية صور يوميا، للرضع والأطفال والمسنين والنساء وغيرهم من المدنيين الذين يعانون في هذه الأزمة أمر مؤلم. وأنا شخصيا أشعر بذلك”. وتابع :أعلم أيضا أن بعض الأشخاص في الوزارة قد يختلفون مع الأساليب التي نتبعها أو لديهم وجهات نظر حول ما يمكننا القيام به بشكل أفضل. لقد نظمنا منتديات في واشنطن للاستماع إليكم، وشجعنا المديرين والفرق على إجراء مناقشات صريحة مع العاملين حول العالم على وجه التحديد حتى نتمكن من سماع تعليقاتكم وأفكاركم. لقد طلبت من قيادتنا العليا الاستمرار في القيام بذلك”.
الكثير من المسؤولين الاميركيين، قرأ في رسالة بلينكن، محاولة لاحتواء الآراء المختلفة فقط، من دون ان يكون هناك نية للتغيير، في سياسة الرئيس بايدن تجاه الحرب.
وأكد ذلك المؤتمر الصحفي، الذي عقده المتحدث باسم الوزارة ماثيو ميلر، وأشار فيه الى ان بلينكن، التقى بعدد من الأشخاص من مكاتب مختلفة داخل الوزارة، للاستماع إلى آرائهم حول السياسة المتعلقة بالحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، وإنه يشجع الناس على تقديم تعليقات، وكذلك التحدث إذا اختلفوا. لكن هذا لا يعني أننا سنغير سياستنا بناء على ما يختلفون عليه”.
ماذا يعني ذلك؟ يعني بداية، ان كل من يراهن على امكانية ان يلعب الشارع، او الرأي العام في الدول الغربية، وفي الولايات المتحدة الاميركية تحديدا، دورا في تغيير سياسة هذه الدول، فهو مخطىء.
اما تاليا، فإن هذه الديمقراطيات في مكان، فهي تحذو حذو الديكتاتوريات، في ضربها الرأي العام بعرض الحائط.
ما من شيء يؤشر، الى ان إسرائيل ستفقد الدعم في حربها على غزة، بل على على العكس من ذلك. اما الجهود التي ستنكب عليها الديبلوماسية الأميركية، ستكون بالعمل على منع توسعة رقعة الحرب، وهي قامت وتقوم بهذا الامر مع كل المعنيين، وعن طريق كل القنوات الديبلوماسية المتاح ة. اما في الحرب على غزة، فهي ما زالت داعمة وشريكة في هذه الحرب، ولن تتراجع قبل ان تعلن إسرائيل انتهاء عمليتها العسكرية.
والسؤال الاهم، والذي لا جواب عنه حتى اللحظة هو، ماذا بعد هذه الحرب؟
يتوقع كثير من المحللين، ان الحرب قد تقضي على “حماس” كتنظيم، لكنها لن تقضي عليه كفكرة، خصوصا بعد ما ارتكبته إسرائيل من مجازر في القطاع، فهي بما قامت به، تؤسس لجيل قادم، سيكون اكثر تشددا من” حماس”، هذا من ناحية، اما من الناحية أخرى، فإن هناك تخوف من الغموض، فيما يتعلق بالمصير السياسي والاداري للقطاع، بمعنى من سيحكمه، والى متى، وكيف؟ هل ستفتح نهاية الحرب، ابواب التفاوض من جديد، بين الاسرائيلي والفلسطيني، ومعاودة البحث بحل الدولتين، والاتجاه الى ارساء سلام بينهما، اي انها ستكون بداية لشيء آخر؟
الواقع، ان المشهد برمته هو ضبابي للغاية، حتى بالنسبة لإسرائيل التي صرح بنيامين نتنياهو امس بأنه “لن نسمح بسلطة مدنية تعلم الأطفال كراهية إسرائيل، وتدفع للقتلة حسب عدد الأشخاص الذين يقتلونهم. رئيس سلطة لم يدن المذبحة حتى الآن. يجب أن يكون هناك شيء آخر”، وعدم اعلانه عما يكون “الشيء الآخر” يؤكد انه غير واضح حتى الآن مما يجعل المشهد اكثر تعقيدا.
هناك من يتخوف، من اي يكون مشروع “الترانسفير” الذي تطمح اليه الحكومة الاسرائيلية بقيادة نتنياهو, هو “الشيء الآخر”, وقد يكون قابلا للتحقق؛ ويعتبر ان العين يجب ان تبقى على مصر، التي وان كانت اعلنت رفضها القاطع لتهجير اهل غزة الى صحراء سيناء، الا انه من الممكن ان تتعرض لضغوط ومغريات في آن واحد، تحثها على استيعاب مؤقت لسكان قطاع غزة في شمال سيناء. وكالعادة المؤقت قد يصبح دائما.
ففي لحظات مفصلية في التاريخ، عندما يعلو صوت المعارك في كل مكان، هناك مشاريع خطيرة يتم تمريرها في الضوء، من دون ان يتدخل احد، تماما كما حصل مع الارمن في كاراباخ، قد يلقى سكان قطاع غزة المصير نفسه؛ خصوصا انه حتى الدول العربية، التي تدين الجرائم والمجازر التي ترتكبها آلة القتل الاسرائيلية بحق الغزاويين، الا ان موقفها من “حماس” مختلف، ويشكل انتصارها، مصدر قلق بالنسبة اليها.. اكثر من هزيمتها.