“تنافسي، “حازم”، “صارم” وحتى.. “مخيف”!
كثيرة هي الصّفات التي ترتبط بشكل مباشر بـما يسمّى ب “القائد الجيّد”، وهذا ما أكدته الكثير من الدراسات في علم النفس بحيث رأت أنّ القادة المهيمنين يُنظر إليهم على أنهم أكفّاء وعلى الصعد كافة.
وقد استندت بذلك على دراسات تحليليّة لشخصيات عدد من روّاد الأعمال أمثال مؤسس أمازون جيف بيزوس والرئيس التنفيذي لشركة تسلا إيلون ماسك، اللذين ينظر إليهما من قبل الكثيرين على أنهما مصدر إلهام.
إلا أنّ تيّارًا آخر، وبعد دراسة معمّقة لطريقة “القادة الجيّدين” في إدارة شركاتهم وتعاملهم مع موظفيهم، وجد أكثر من عيب في أدائهم، إذ اعتبر بأنهم في كثير من الأحيان يحاولون فرض أنفسهم بالقوة من خلال الدفاع عن طريقتهم بأي ثمن، حتى لو اضطروا إلى اللجوء إلى التهديد والوعيد، بدلاً من السعي مثلًا، إلى الحوار والمناقشة والاستشارة… مما خلص الى أنّ ذلك يؤدي إلى عيوب خطيرة للشركات والمنظمات والدول التي تديرها.
من هنا قام كل من الإداري والأستاذ المساعد في كلية Fuqua لإدارة الأعمال بجامعة ديوك بالولايات المتحدة الأمريكية Hemant Kakkar وأستاذ السلوك التنظيمي بكلية لندن للأعمال Niro Sivanathan بالنظر في بعض النتائج السلبية لأسلوب “القائد المهيمن”، من خلال سلسلة من الدراسات، بحيث تبيّن أن هذا الأسلوب يؤدي إلى ضعف التعاون بين الموظفين، لأنه يخلق مناخًا من المنافسة، وبالتالي يقوم بتهديد المساعدة المتبادلة، كتبادل المعلومات، والحلّ الجماعي للمشاكل داخل المنظمات، وافترضا أن القائد المهيمن يخاطر بنشر ما يسمى بحالة ذهنية “تافهة”، والتي تقوم على نظريّة: “لا يمكن للمرء أن يتطوّر إلا على حساب الآخرين أو من خلال الإقلال من شأنهم.
نسبة ال مساعدة المتبادلة قليلة في الديكتاتوريات
في دراستهما الأولى، تطرق Hemant Kakkar وNiro Sivanath إلى القيادة السياسية بحيث أجرا مقارنة بين القياديين في البلدان الديموقراطية والديكتاتورية، وتوصلا إلى أنّه على الرغم من أن بعض القادة الديموقراطيين يتسمّون بالعدوانية والسيطرة والقدرة على المنافسة، إلا أنهم يبقون بعيدين عن العقل المهيمن والأحادي الذي يتسّم به الدكتاتوريّون والذين يسعون من خلاله إلى إخضاع الآخرين والتحكّم بهم.
كما قاما بفحص بيانات كانا قد جمعاها بين عامي ١٩٨١ و ٢٠١٤ في ٧٠ دولة، كجزء من “مسح القيم العالمية” ” World Values Survey” الذي يحلّل المعتقدات الاجتماعية والسياسية والثقافية للسكان، من خلال التركيز بشكل خاص على أي مدى يتفق المستجيبون مع عبارات مثل: “لا يمكن للناس أن يصبحوا أثرياء إلا على حساب الآخرين” كما درسا أيضًا الأهمية التي تعلّقها الشعوب على سلوكيات المساعدة المتبادلة، خاصة بين الجيران، ليتبيّن أنّ المواطنين في الديكتاتوريات يتمتعون بعقلية “تافهة” أكثر بكثير مما هي عليه في الديموقراطيات، وهم بالتالي أقل ميلًا لمساعدة الآخرين.
وفي دراستهما الثانية، اختبرا تأثير القيادة المهيمنة في السياق المهني، بحيث قاما بتصوير سلسلة من مقاطع فيديو، لعب فيها ممثلون من ذكور وإناث دور قائد الفريق الذي يقدّم توقعاته ورؤيته الإداريّة لمرؤوسيه، ولاحظا أنّ هذه الرؤية قد جاءت مهيمنة في الكثير من الأحيان، إذ ظهر بشكل واضح لجوء القائد إلى ما أسمياه “فرض الهيبة” وذلك من خلال استخدام نفوذه واستغلال موقعه لإقناعهم بأنه كفوء وصاحب خبرة، وبأن ما يقوم به يصبّ في مصلحة الشركة ومصلحتهم.
هيمنة أم هيبة؟
ثم قاما بعد ذلك بتجنيد حوالي ٦٠٠ متطوّع، عرضا عليهم مقطعًا واحدًا أو أكثر، من مقاطع الفيديو هذه قبل الإجابة على استبيان لتقييم طريقة تفكيرهم والسلوك الذي قد يتبنونه إذا عملوا مع المدير الذي أتوا منه، فوجدا أن المشاركين الذين عملوا مع “زعيم مهيمن” عبّروا عن عقلية “تافهة” وكانوا أقل استعدادًا لمساعدة الآخرين.
وسمحت لهما الاستبيانات والتحليلات الإضافية باستبعاد العوامل الأخرى التي من المحتمل أن تؤثر على هذه النتائج، فمثلًا لم يكن لجنس القائد سواء كان ذكرًا أم أنثى أي تأثير على سلوكه المهيمن أو المتفهّم.
إلا أنهما لاحظا مدى الأهمية التي قد تلعبها الاستقلالية وطبيعة العمل، مثلًا، بغضّ النظ ر عن أسلوب قائده، عندما يشعر الموظف أنه لا يتحكّم في مهامه أو أن عمله لا ينطوي على تعاون فقد يتردّد في مساعدة الآخرين.
__على الرغم من احترامهم وتقديرهم له، إلا أن القائد المهيمن نادرًا ما يقوم بدعم مرؤوسيه
إلا أنّ الملفت في هذه الدراسة هو أنّ تقييم المساعدة الذاتية قد تمّ فقط من خلال إعلان النوايا، فهل ستكون النتائج مطابقة في حال تُرجمت إلى أفعال؟
هذا ما قام بدراسته Niro Sivanath و Hemant Kakkar فبعد تقسيم المشاركين إلى فرق تضمّ كل واحدة أربعة أفراد، طلبا منهم بعد قراءة فقرة تضم مواصفات قائد مجموعتهم، بأن يكتبوا ما علق في ذهنهم، وعندما انتهوا، عرضا عليهم التطوّع لمساعدة الأعضاء الآخرين في المجموعات التي بحاجة إلى مساعدة لتأتي النتيجة مطابقة لتوقعاّت الباحثَيْن، إذ أن الفريق الذي كان بقيادة قائد مهيمن أبدى استعدادًا أقل للتعاون ومساعدة الغير.
وللتحقّق أكثر وأكثر من صحّة استنتاجاتهما، قاما بإجراء استطلاع رأي على ٢٤٩ موظفًا هنديًا يعملون على الأراضي الهندية، بحيث جرى تقسيمهم إلى ٥٠ فريقًا مختلفًا، وبعدها طُلب منهم تقييم رؤسائهم وإعطاء رأيهم بأدائهم، فتبيّن أن الأشخاص الذين يقودهم زعيم مهيمن أظهروا قدرًا أكبر من التفكير “التافه” وكانوا أقل عرضة لمساعدة بعضهم البعض.
وأكثر من ذلك، فعلى الرغم من العقل المهيمن الذي يتمتّع به رئيسهم وعدم دعمه لهم، فقد اعتبروه يتمتّع بأخلاق عالية وقدرة متميّزة على إدارتهم.
وبالفعل، هناك الكثير من الأمثلة الملموسة قد أظهرت التداعيات السلبية للسيطرة، نذكر منها ما حصل مع الرئيس التنفيذي السابق لشركة Microsoft ستيف بالم Steve Balmer المعروف بتأييده لنهج الهرميّة والتراتبيّة التي تقوم على تحكّم الرئيس بالمرؤوس، ففي ظل قيادته، خسرت الشركة الكثير من الأرض أمام منافسيها، هو الذي عمّم ثقافة الخوف بين الموظفين، مما ولّد الكثير من الصراعات الداخليّة، لكن سياسة الشركة تغيرت في عام ٢٠١٤ مع وصول الرئيس التنفيذي الحالي، ساتيا ناديلا Satya Nadella وهو قائد معروف بمهاراته ونهجه المتعاطف، إذ سعى منذ وصوله على رأس الشركة، إلى العمل على تحويل الموظفين من أصحاب “التفكير التافه” إلى ما يسمى ب”عقلية التنمية”، من خلال تشجيعهم على رؤية النجاحات والفشل كفرص لاكتساب المعرفة التي يمكن أن تكون لجميع الأطراف المعنية، ومنذ ذلك الحين، سجلت Microsoft إيرادات وأسعار قياسية في أسهمها.