"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

"القاتل الموهوم" الذي يخاف على أحبائه من تخيّلاته الإجراميّة!

كريستين نمر
الأحد، 11 يونيو 2023

ملابس ممزّقة، أبواب مخلّعة، شاشات هواتف كل مَن في البيت مكسّرة، باختصار هذه هي حالة شقّة بول (٢١ عامًا) التي يقطن فيها مع أهله، وأول كلمة يقولها والده عندما تلتقيه “هذه حالنا منذ سنوات وللأسف.. فإنها تزداد سوءًا”!

وتكمل زوجة أبيه: ” لا يستطيع التحكّم بنفسه ولا السيطرة على غضبه، يعيش بعزلة تامة وبخوف مستمر من أنه سيرتكب جرمًا ما، وبأنه سيقدم على قتل أحد الأشخاص”.

في الواقع، لقد تم تشخيص حالة بول “باضطراب نقص الانتباه مع فرط بالنشاط (ADHD) منذ أن كان في سنته الابتدائية الثانية، وهو منذ ذلك الحين، تحت العلاج”، ويقول والده: “أنا متأكد من أن هناك شيئًا آخر، لدي انطباع بأن حالته تتعدّى النشاط المفرط، إنني أخشى من أن يكون ثنائيّ القطب”، فيردّ بول قائلًا: ” قد أكون مصابًا بالفصام أو الجنون”!

وفي التفاصيل، يعيش الشاب حاليًا مع والده وزوجة أبيه وشقيقه الذي يصغره بعامين (١٩ عامًا). بعد فترة تعليمية صعبة، حيث رسب مرتين في المرحلة الابتدائية والمتوسطة، قرّرت المدرسة توجيهه نحو التعليم المهني ولكن على الرغم من ذلك، فقد وجد صعوبة في إكمال دراسته، ويحاول الآن الحصول على رخصة قيادة “علّني أصبح أكثر استقلالية كما يقول والدي”، يشير بول.

هذا على الصعيد المدرسي، أما على الصعيد الشخصي فقد انفصل والديه عندما كان في الخامسة من عمره، ويقول: “غادرت والدتي مع جارنا … لم نرها منذ ذلك الحين تركتنا أختي، أخي وأنا… حتى أنها لا تتصلّ بي لتعايدني في عيد ميلادي، أظن أنها لا تتذكره “.

طفولة مضطربة

وبول هو “سباعي”، كما يسمّى في العاميّة، أي ولد في الأسبوع الواحد والثلاثين، (ما يعادل سبعة أشهر من الحمل)، وقد يكون لذلك علاقة في تأخرّه في الكلام و”النظافة”، بحيث عانى في طفولته وحتى بلوغه التاسعة من عمره، من التبوّل اللا إرادي، ويضيف والده: “لقد كان طفلًا صعبًا بحيث كانت أوقات الوجبات مصدر توتّر داخل الأسرة، كذلك أوقات نومه غير المنتظم بسبب الكوابيس المتكرّرة.

أما المدرسة يقول والده كانت بمثابة الجحيم بالنسبة إليه “لم يستطع تقبّلها، كان يبكي باستمرا، ويصرخ، ويضربنا ويتشبث بنا رافضًا الدخول إليها، الأمر الذي كان يحصل كل يوم وعلى مدى السنوات التي أمضاها فيها، ثم سرعان ما أظهر بول أعراض اضطرابات النمو العصبي: بحيث تعذّر عليه الرسم، وكانت الكتابة بمثابة عذاب حقيقي له، كان يكتب بطريقة بطيئة وبخط غير مقروء، كان لديه مشكلة في ارتداء ملابسه، أضف إلى ذلك صعوبات في اكتساب الكلام والقراءة والرياضيات… فقررت المدرسة إحالته إلى مركز طبي نفسي، تبيّن أن يعاني من اضطرابات التعلّم، أي عسر طفيف في القراءة والكتابة واضطراب التنسيق واضطراب اكتساب الحركات، وبالطبع ADHD …

مضطرب ومفرط النشاط

في الواقع، كان من الصعب بالفعل مجاراة بول و”ترويضه”، فقد اشتكى مدرّسوه ومنذ سنواته المدرسية الأولى من سلوكه الاضطرابي، وصوته العالي وعدم التزامه بقوانين المدرسة، كانت لديه معلّمة ترافقه في كل خطواته التعليمية بدءًا من المدرسة وصولًا إلى البيت، إضافة إلى خضوعه لجلسات في علاج النطق والمتابعة النفسية والحركية، وكل ذلك كان مترافقًا مع أدوية مهدّئة.

1111-1

إلا أنه وعلى الرغم من كل هذه العلاجات، وبينما كانت الصعوبات التي يواجهها من عدم الانتباه وفرط النشاط الحركي تتحسّن، بدأ يشعر أهله أنه بات سريع الغضب، فبمجرّد أن يُرفض له طلب، حتى يدخل في موجة من الغضب الشديد ويقول بول: “عندما أغضب أشعر بتوتر شديد، تنتابني أفكارًا وصورًا مخيفة أشعر بدقّات قلبي تتسارع، ثم تنتابني موجة من الاهتزاز يرافقها شعور بحرّ شديد ووخز في المعدة وصعوبة في التنفّس مع ألم في المريء، شعور يشبه إلى حد كبير أعراض نوبات الهلع…

وقد تمّ تشخيص حالته هذه باضطراب “العناد الشارد ”، مع عدم التحمّل، بحيث يتحوّل إلى شخص شديد الإحباط، وقد قرر الأطباء وضعه تحت علاج يقوم على أدوية الأعصاب لعلاج مشاكله السلوكية الخطيرة التي تجمع بين اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه واضطرابات العجز، إضافة إلى فترات من القلق، التي بدأت تتجلّى بشكل خاص في اضطرابات بالنوم وكوابيس والاستيقاظ في ساعة مبكرة، هذا عدا الصعوبات في علاقاته مع زملاء المدرسة… ليتبيّن أخيرًا أنّ كل هذا، كان نتيجة اكتئاب أصيب به وهو في السادسة عشر من عمره بعد أن تركته صديقته، ليغرق من جديد بحالة من الحزن، قام على أثرها طبيبه بزيادة جرعات الأدوية المضادة للاكتئاب وذلك لمدة ثماني عشرة شهرا.

إلا أنّ هذه الحلقة الاكتئابية جاءت نتائجها كارثية عليه مما اضطره إلى ترك المدرسة المهنيّة، ورفض استكمال علاجاته، يوضح والده: “منذ أن كان في الثامنة عشرة من عمره، لم يأخذ أي دواء، لم يكن يريد المزيد، لكنه الآن يدرك أنّه ليتحسّن عليه أن يعاود علاجاته.

نهج علاجي متكامل

وبسبب الهواجس التي بدأت تنتابه والأسئلة التي أخذت تطرأ على باله حول إصابته بالفصام والجنون، تقرّر خضوعه لنهج علاجي متكامل تمّ تطويره منذ حوالي عشر سنوات على يد الطبيب في علم النفس السريري والمرضي والأستاذ المحاضر في جامعة بوردو غريغوري ميشال، الذي حاول جمع عدّة عناصر في الوقت عينه، كالملاحظة السريرية للمريض، والتقييمات التي أجريت له سابقًا في بيئات مختلفة كالمنزل والعمل والمدرسة… ليتبيّن بأنه يتمتّع بقدرات فكرية كبيرة تغذي خياله الواسع وتنتج خوفًا وقلقًا بات من الصعب السيطرة عليهما، إضافة إلى شعور دائم بعدم الأمان والتوتّر والاكتئاب…

“أشعر بالخطر طوال الوقت”

ويروي الشاب قائلًا: “أشعر بالتوتر طوال الوقت بسبب مخاوف تنتابني كما أشعر بأنّ خطرًا دائمًا يداهمني، وبأنني بلا قيمة، أريد أن أتعالج.. أنا خائف”..

إذن نيّة العلاج موجودة وبقوّة عند الشاب، من هنا بعد عرضه على غريغوري ميشال، تمّ إخضاعه لاختبار يال براون Yale Brown”الوسواس القهري” (Y-Bocs) ليتبيّن أنّ لديه أفكارًا “هوسية” غامضة مع حالة دائمة من التأهّب، بسبب شعوره بالاضطهاد و يقول بول: ” إنني أدرك التهديدات الخفيّة لي من قبل الآخرين، أشعر بعدم الارتياح عندما أكون مع أشخاص آخرين حتى لو لم أكن أعرفهم، مثلًا عندما أكون في المترو أو الباص…

maxresdefault

كما تبيّن من خلال الاختبار افتقاره العميق للاستقلالية، مدعومة بهشاشة نرجسية تجعله بحاجة إلى رعاية دائمة له من قبل الآخرين. كما لوحظ بعد تقييمه عاطفيًا، أنه لا يملك خيالًا ثريًا فحسب، إنما يبدو وكأنه ضحيّة فريسة للهموم العنيفة التي تغمره بقوتها وتغرقه في حالة من الفوضى العميقة، من هنا يأتي شعوره بالسلبية والضعف ولجوئه إلى المراوغة التي يستخدمها كشكل من أشكال الحماية الذاتية.

وأبدى من خلال اختبار Y-Bocs أيضًا تخوّفه من أن يكون “مجنون تمامًا”، ويقول: “أشعر بالهذيان… لقد سألتموني إذا كان لدي أي هواجس.. حسنًا.. في الواقع.. نعم.. ليس لدي الكثير.. لدي رغبة في القتل! ولا يمكنني إخراجها من رأسي.. وهذا الشعور يرافقني منذ سنوات”.

ثمّ بدأ بول بسرد سيناريوهاته الخيالية: “أتخيّل نفسي أطعن الأشخاص الذين ألتقي بهم، أصدقائي خصوصًا الفتيات منهم، يتراءى لي بأنني أقوم برميهن أمام المترو… حتى أخي لم يسلم من تخيّلاتي هذه”.

ويتذكّر بول ما حدث معه عندما أبلغته صديقته أن علاقتهما شارفت على نهايتها وكيف غمره خوف من البقاء بمفرده معها: “حاولتُ معانقتها وأنا أبكي، إلا أنها دفعتني بعيدًا لم أضربها، لكن … سقط نظري على فتّاحة الرسائل على شكل خنجر التي كان جدي قد أهداني إياها… جذبتني … وهنا انتابني شعور بالخوف… شيء ما بداخلي كان يقول لي.. اقتلها!“.

ولكن كيف وصلت الأمور إلى هذا الحدّ؟ منذ متى بدأ هذا الجزء المظلم داخل هذا الشاب بالظهور؟

يجيب بول: “بدأت هواجسي هذه في سنتي المتوسطة الأولى (الصفّ السادس)، فقد كان يراودني شعور غريب بقتل زملائي في الفصل … أولئك الذين لا يريدون أن يلعبوا معي أو الذين يسخرون مني…”

يرجّح البروفسور غريغوري ميشال أن تكون الفترة التي أمضاها وحيدًا خلال سنوات الدراسة هذه، قد طوّرت شعوره العميق بالظلم، ويربطها بهجر والدته له ولأخوته، “لقد غادرت دون أن تقلق علينا عندما كنا صغارًا … أخي، أختي وأنا على الرغم من حاجتنا الماسة إليها”.

إنه خائف من أفكاره

على الرغم من أفكاره هذه، فهو يعلم من أنه لم يؤذ أحدًا على الإطلاق، “لكن شكّه بسلوكه وعدم مسامحته لذاته جعلاه يعيش جحيمًا”، يقول ميشال، ويضيف: “إنه يدرك طبيعة أفكاره اللاعقلانية، وهذا ما دفعه لإخفائها. إنه يعرف انها فوقيّة ومغرورة، أي أنها لا تتوافق مع تطلّعاته واحتياجاته ورغباته، وبما أن أفكاره تتعارض مع قِيَمه، فهو يشعر بأنه جبان وبلا قيمة، فهذا الشعور أوقعه بالعزلة التي يعيشها، وهذا ما أشار إليه بالفعل عندما قال: “أتجنّب الخروج، لأنني أخشى مهاجمة الأشخاص الذين أقابلهم في طريقي، أفضّل البقاء وحدي في غرفتي، أحب مشاهدة كل شيء عن القتلة المتسلسلين، أنا مفتون بالطريقة التي يرتكبون بها جرائمهم، وما يدفعهم إلى فعل ذلك … وخاصة بشهاداتهم التي أجدها على الإنترنت.”

ويؤكّد الطبيب أنّ بول لا يعاني من رهاب اجتماعي ولا رهاب الأماكن المكشوفة، فهو لا يخشى مغادرة منزله خوفًا من أن يحكم عليه الآخرون، إنما يسعى إلى احتواء هواجسه هذه، ويقول: لقد كرّر خلال سرده لقصّته بأنه خائف على الآخرين من نفسه، وأنّ عزلته هذه التي يعيش فيها هي في الواقع لحماية الآخرين من شر يفترضه هو أنه موجود بداخله، فبتكراره بأنه شخص جيد، وبأنه لن يؤذي أحداً فهو بذلك يتجنّب المواقف التي يخشاها ويطمئن نفسه، ويتحقق من أنه لم ولن يرتكب شيئًا”.

رهاب الاندفاع

ويسمي البروفسور غريغوري ميشال هذه المخاوف والوساوس العدوانية الشديدة والمؤلمة بـ “رهاب الاندفاع” الذي هو نوع من أنواع اضطراب الوسواس القهري ويؤكّد أنّ وعي بول لحالته وإرادته في العلاج كانت الحافز وراء التخلّص من أفكاره هذه.

ويشير الطبيب إلى أن العلاج الذي اتبعه مع بول يستند على نهج معرفي وسلوكي ومن أهم خصائصه:

أولاً: مساعدته كي يتعرّف على نفسه كضحية لهذا الاضطراب النفسي المرضي وعلى التقليل من خجله تجاه أفكاره المهووسة.

ثانيًا: إتاحة الفرصة له للعودة إلى بعض العناصر الأساسية في طفولته ومراهقته، لا سيما رحيل والدته والوصم الذي عانى منه من رفاقه.

ثالثًا: التعرّف على أفكاره المتطفلة وقبولها بعناية، ويقينه على أنّ لا شيء من هذا قد يشكّل خطرًا عليه أو على من حوله.

ويقول غريغوري: لقد سمحت ممارسة التأمّل اليقظ لبول بالخروج من الحلقة المفرغة لأفكاره، وساعدته على التخفيف من ردود الفعل التلقائية لجسده، بما في ذلك الأحاسيس الجسدية للتوتر والضغط… طبعًا كل ذلك ترافق مع العلاج بالأدوية.

المقال السابق
تحذيرات من "الأشباح الآلية".. الذكاء الاصطناعي ينتحل شخصيات الموتى
كريستين نمر

كريستين نمر

محرّرة وكاتبة

مقالات ذات صلة

"مفترس في هارودز" وثائقي يتهم محمد الفايد باغتصاب موظفات وابتزازهن

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية